كلام عن أيام خارج الأردن

 

لم يعد السفر ممتعا كما كان، فالسفر بالطائرة اليوم، رحلة من التعب حقا، والتوجس والحذر، فوق الإجراءات المعقدة، وكثرة تغيير التعليمات من وقت لآخر.
خضت تجربة سفر، مضطراً، فلم يكن ممكنا تأجيل السفر، ومنذ إغلاق مطار الملكة علياء في الثامن عشر من آذار، ولأشهر عدة متواصلة بقي المطار مغلقا، باستثناء رحلات الإجلاء لمن تقطعت بهم السبل، أو خسروا أعمالهم، والكل يتذكر تعقيد الإجراءات، من الحجر في البحر الميت، أو الفنادق، لأسبوعين، فيما توقف كل السفر السياحي، أو لغايات العمل.
سافرت في تشرين الثاني، والإجراءات أصبحت أقل تعقيدا، لكن كل شيء قد تغير، فأولا عليك أن تجري فحصا يثبت خلوك من الفيروس، ثم عليك أن تجد حجزا، أمام قلة عدد الطائرات، وحين تذهب الى المطار، تجد جوا مختلفا، فعدد الناس فيه قليل، والكل يتحوط من غيره، كمامات وقفازات، وعليك أن توقع تعهدا صحيا في المطار، وتبقى قلقا، فقد تتأخر الطائرة، لسبب أو لآخر، لكنك حين تحلق تكتشف أن كل المسافرين الى جانب بعضهم بعضا، والطائرة تفيض بمن فيها، والكل يضع كمامات، وكثرة تستعمل القفازات، إضافة الى أن المضيفين والمضيفات، كأنهم يعملون في غرفة عمليات في مستشفى، إذ تغير لباسهم، وباتوا يستعملون ألبسة وقائية، تزيد من كآبة المنظر، فتشك في كل شيء، من طعامك، الى هواء الطائرة، وصولا الى من يجلس الى جانبك، وكان نصيبي في الذهاب مسافر من نيجيريا ينزل كمامته كل دقيقة، من أجل أن يعطس، أو يسعل، وربما يشتم بلغته الأصلية.
تصل الى مطارك في البلد المقصود، وهناك طابور آخر، تصطف ويأخذون بياناتك، ويجرون فحصا للوباء ذاته، الذي كنت قبل يومين فقط، قد أجريت فحصا لإثبات خلوك منه، والإجراءات سريعة، فالمطارات لا تحتمل تجمع كل هذه الأعداد، والوسواس في صدرك يعبث بكل الطمأنينة فيك، فأنت لا تعرف اذا كنت قد التقطت العدوى من مسافر، أو فنجان قهوة بلاستيكي، أو نفثة سيجارة لمدخن في قاعة التدخين، أو من مقبض حقيبتك حين تستلمها، وتصير متوجسا من الفيروس اللعين، الذي لا تعرف أين يكمن وماذا يريد، فوق قلقك من قرار مفاجئ يصدر في عمان بإغلاق المطار، فتعلق في بلاد الله الواسعة.
على سيرة مطار الملكة علياء، فقد استقبل عام 2019 أكثر من تسعة ملايين مسافر، لكن وفقا لآخر الإحصائيات، فقد انخفضت حركة المسافرين الى أقل من ثلاثين بالمائة، هذا العام، مقارنة بالعام الماضي، والمؤكد هنا أنه لا نية للعودة الى إغلاق المطار، حتى لو تم إعلان حظر شامل في الأردن؛ إذ إن إغلاق المطارات بات وراء الدول والشعوب.
تمضي زيارتي لأسبوعين سريعا، ولا يلفت انتباهي الا التزام الشعوب حتى خلال مسيرها في الشوارع، بالكمامات، والقفازات، ولا تجد أحدا بلا كمامات أو قفازات، وهذا أمر حميد، وتتمنى لو يحدث عندنا، فالقصة ليست بحاجة الى شرطي يلاحق المخالف، لأن من يحمي نفسه، يحمي عائلته، وليس بحاجة الى من يلاحقه في كل مكان، والأهم هنا أن استعمال الكمامات يتم حتى في الهواء الطلق، وليس وسط التجمعات وحسب، ولربما سيثبت العلم لاحقا، أن انتقال العدوى ليس باللمس فقط، أو العدوى عبر التنفس، فقد يكون انتقال العدوى عبر الهواء واردا.
تقترب عودتك، فتجري فحصا ثالثا لإثبات خلوك من كورونا، وحتى يتم السماح لك بصعود الطائرة المتوجهة الى الأردن، وتمر بالمراحل نفسها، حتى تحلق طائرتك من جديد.
تصل إلى مطار الملكة علياء، وتقف على طابور جديد، فحص رابع، تكون قد دفعت كلفته مسبقا، ثم تختم جواز سفرك، وتغادر المطار، وكل مسافر وموظف في المطار، قد غطى وجهه بهذا القناع، من نوعيات مختلفة، ويصير مطلوبا منك حجر نفسك في بيتك لفترة ليست قصيرة.
السفر كان ممتعا، لكنه بات مرهقا، فتعود الى بيتك، لا تحضن أحدا، ولا تقبل أحدا، خوفا عليهم، تتكوم في غرفة بعيدا عن الكل، تحوطا، وتجلس وتتذكر نعم الله التي كنا نظن أنها عادية وصغيرة، وإذ بها عظيمة وكبيرة، لا تدرك أهميتها الا بعد زوالها، وتعرف كم كنت جاحدا لله، وكم أنكرنا نعم الله، حين اعتبرنا كل شيء مجرد حق من حقوقنا اليومية.
حماكم الله، وحمى الإنسانية جمعاء.

أخبار أخرى