في شتاء العام (1959)، كان الروس يشعلون شتاء الحرب الباردة بإعلان وصول المركبة الفضائية الروسية (لونا2) لسطح القمر، وهو خبر كان له أثر مدوّ ما نزال نرى مداه حتى يومنا هذا، انتصار بني على أسس علمية وضعها البيلاروسي الحائز على لقب البروفيسور الصغير في سن الخامسة عشرة من عمره (فيجوتسكي) والذي تنسب له المدرسة الروسية في المعرفة حيث التفاعل الاجتماعي ركن أساسي في نمو الإدراك؛ فالوعي لا يوجد في الدماغ بل في الممارسة اليومية، وهو مفهوم يؤكد أن ما ينجزه الطفل والمتعلم مع أقرانه أضعاف ما يؤديه منفرداً.
في مرحلة نشوء هذه المدرسة، كان (ماكس فرتهيمر) يؤسس لثورة 1912 المعرفية ضد نظريات علم النفس التحليلي من خلال مدرسة برلين (القشطلتية) التي كانت ترى المعرفة الناشئة عن الفهم تمنحك القدرة على تطبيق ما تعلمته في مواقف مختلفة على عكس الكائن العاجز الذي تنتجه مدارس الحفظ الأصم، ويكافأ العارفون بحسب القشطلت بمنحة الاستبصار، وهي لحظة تحول المتعلم الى عالم حيث القدرة على إدراك الروابط الكلية للأشياء، إنها ببساطة مدرسة تؤمن بالصورة الكلية للأشياء وتحمل فهما متقاربا نوعا ما مع الرؤية السلوكية التي تبنتها الجارة الجغرافية الجنوبية (سويسرا) من خلال مدرسة (جنيف) ورائدها (فرديناند دي سوسير) الذي أسس لما يعرف بالبنيوية التقليدية التي ترى أن البيدق والرخ والوزير والفيل والحصان والجنود المتناثرين على رقعة الشطرنج تعرف قيمتهم من خلال انتشارهم والعلاقات الداخلية بينهم على المربعات الأربعة والستين وليس من خلال المادة المكونة لهم.
ولعل أبرز رياديي هذه المدرسة هو العالم (بياجيه) الذي بدأ حياته في أبحاث علم الأحياء قبل أن تنتهي دراساته البحثية حول تطور التفكير عند الأطفال وآليات تعلم الصغار، ليقدم دراسات طولية توثق لمراحل التطور العقلي والمعرفي عند الإنسان طوال سنين عمرهم في أبحاث راقبت نمو الإنسان المعرفي على مدار خمسين عاما. ومن خلال كتابيه اللغة والفكر عند الطفل والحكم والاستدلال عن الطفل أحدث ثورة في علم نفس النمو وانعكس ذلك بشكل مباشر على التعليم.
وبالعودة للحظة إعلان وصول (لونا2) للقمر، كان ربيع 1961 يحمل خبر صعود السوفياتي (يوري جاجارين) كأول إنسان يصعد للفضاء ويدور حول الأرض، كانت الولايات المتحدة ترى بهذه الإنجازات نجاحا للمدارس المعرفية التي تبنى عليها أجيال المتعلمين، فأوكلت ملف معركة الصعود بالنهضة العلمية والمعرفية الأميركية بعد هذا التفوق السوفياتي الواضح الى عالم النفس “برونر”، إنهم أمام هزيمة تاريخية وعليهم مواجهتها بكل صدق وبأهم علمائهم.
لم يتأخر عالم النفس في مهمته ليقدم واحدة من أهم نظريات التعليم الحديثة التي ستعرف لأبناء جيلنا بـ”نظرية التعلم بالاكتشاف” التي صنفت كثورة على نموذج التعلم التلقيني المباشر، وفيها يملك الطالب ناصية المعرفة بين اكتشاف موجه وحر ضمن إنجازين فردي وجماعي.
وعلى الرغم من أن برونر ارتكز على بياجيه في عمله، إلا أنه من خلال كتابيه “نمو النظرية للتدريس” و”نحو نظرية للتعليم”، أسس لمدرسة أميركية أثبتت تفوقها المعرفي.
ولعل اللافت في جميع المدارس المعرفية السابقة هو أن أساسها بني على مدارس علم النفس في امتداد سلس ومتوازن في فهم مراعاة حاجات العملية التعليمية بكل أركانها، وأنها عملية إنسانية وليست مجرد نسخ ولصق كما يحصل اليوم.
يرى فيكتور فرانكل في كتابه “إرادة المعنى”، أن أخطر ما نواجهه اليوم هو التعامل مع الإنسان كشيء، وهو ما يؤسس للإحباط الوجودي الذي نراه في فشل التعليم من خلال مؤشرات الملل واللامبالاة.