صدى الشعب – كتب ماهر البطوش
المواطنة في الأردن ليست وصف قانوني جامد، ولا حالة شعورية عابرة، بل هي رابطة حية تتشكل عند التقاء النص الدستوري بالوجدان الوطني، وحين يتحول الانتماء من إحساس داخلي إلى التزام واعي تجاه الأرض والدولة والمجتمع. فالمواطن الأردني لا يُعرف فقط بما يحمله من وثائق، بل بما يحمله في ضميره من مسؤولية، وبما يقدمه لوطنه من احترام للقانون وإيمان بالعدالة.
وقد أدرك الدستور الأردني هذا المعنى منذ اللحظة الأولى، حين جعل الكرامة الإنسانية مصونة لا يجوز المساس بها، وحين قرر أن الأردنيين سواء أمام القانون، في تأكيد صريح على أن الإنسان هو جوهر الدولة وغايتها. ولم يكن هذا التوجه بعيد عن الرؤية الهاشمية التي رسخها المغفور له الملك الحسين بن طلال، حين جعل الإنسان محور البناء الوطني، مؤكداً أن قيمة الأوطان تقاس بما تصونه من كرامة أبنائها، لا بما ترفعه من شعارات.
ومن هذا الأساس، يتشكل الارتباط بالأرض في الوعي الأردني بوصفه ارتباط مسؤول لا عاطفي فقط؛ فالأرض التي نحبها لا تصان بالانفعال، بل تحفظ بالالتزام، ولا تحمى بالكلمات، بل باحترام القانون والنظام العام. فالمواطنة الصادقة لا تنفصل عن السلوك اليومي، ولا تستقيم إن تحولت لذريعة لتجاوز الحقوق أو الإضرار بالغير، وهو ما أكد عليه الدستور حين ربط الحرية بحدودها القانونية، وجعل ممارستها مسؤولية لا فوضى.
ولقد كفل الدستور حرية الرأي والتعبير بوصفها ركيزة أساسية للإصلاح، إدراكاً منه لأهمية النقد في تصويب المسار وتعزيز الثقة العامة، غير أن هذا الحق يفقد معناه حين ينحرف عن هدفه وغايته، ويتحول من أداة بناء إلى وسيلة تشكيك، أو من مساحة حوار إلى ساحة مزاودة. فالوطن لا يبنى بخطاب الإحباط، ولا ينهض حين يختزل في أخطائه، ولا يحفظ إذا فصل النقد عن المسؤولية.
وفي هذا السياق، يبرز تأكيد جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين على أن سيادة القانون هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، باعتبارها الضمانة الحقيقية للعدل والاستقرار، والفيصل الذي يحتكم إليه الجميع دون استثناء. فحين يكون القانون هو المرجعية، يصبح الاختلاف منظماً، وتتحول الأزمات إلى فرص مراجعة، ويشعر المواطن بأن الدولة تقف على مسافة واحدة من الجميع.
ولأن الدولة ليست نصوص فقط، بل أجيال تحملها إلى المستقبل، فإن المواطنة لا تكتمل دون وعي الشباب بدورهم في البناء. وقد عبر سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله بوضوح عن هذا المعنى، حين ربط قوة الأردن بوعي شبابه وقدرتهم على تحمل المسؤولية، في إشارة إلى أن الانتماء الحقيقي لا يقاس بالعمر، بل بمدى الاستعداد للمشاركة الإيجابية وصون الثوابت الدستورية.
واليوم، وفي ظل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، يحتاج الأردن إلى استعادة جوهر المواطنة بوصفها شراكة لا اصطفاف، ومسؤولية لا مزاودة، وعمل لا خطاب. فالأردن أكبر من أن يزاود عليه، وأعمق من أن يختزل في لحظة إحباط، وأصدق من أن تقاس مكانته بحدة النقد أو ارتفاع الصوت.
إن المواطنة الحقة تمارس حين نحترم القانون حتى في لحظات الاختلاف، وحين نقدم المصلحة العامة على الاعتبار الشخصي، وحين نؤمن بأن الدستور لم يكتب ليعلق على الجدران، بل ليعاش في السلوك، ويترجم في الواقع، ويصان بالوعي الوطني.
وهكذا، حين يصبح القانون ثقافة، والمواطنة ممارسة، والانتماء مسؤولية، يكون الوطن قد وجد طريقه الآمن نحو المستقبل، ويكون المواطن قد أدى أعظم واجباته بهدوء وثبات، مستند إلى دستور حي، وقيادة واعية، وإرادة وطنية لا تنكسر.






