هل يسرق الدوام الطويل من الأردنيين إنتاجيتهم وحياتهم

أبو نجمة لـ”صدى الشعب”: العمل المرن ما يزال حبيس الإطار التشريعي دون ترجمة فعلية
صدى الشعب – سليمان أبو خرمة
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها سوق العمل عالميًا، باتت أنماط العمل المرن والعمل عن بُعد وتقليص ساعات الدوام جزءًا أساسيًا من سياسات اقتصادات متقدمة تسعى إلى رفع الإنتاجية وتقليل الهدر في الوقت والموارد، غير أن هذا التحول ما يزال في الأردن محدود الأثر، رغم الحاجة المتزايدة إليه في ظل التحديات التي تواجه كفاءة سوق العمل.

وكانت الحكومة الأردنية قد أقرت نظامًا ينظم أشكال العمل المرن، في خطوة هدفت إلى خفض الكلف التشغيلية، والحد من الدوران الوظيفي، وتعزيز قدرة وزارة العمل على تنظيم سوق العمل وأشكاله المختلفة، كما شكّلت تجربة العمل عن بُعد خلال جائحة كورونا اختبارًا عمليًا لقدرة المؤسسات على الاستمرار في أداء مهامها خارج إطار الدوام التقليدي.

وتوسعت الحكومة لاحقًا في اختبار هذا النمط من العمل، عبر تطبيقه جزئيًا في وزارة الزراعة منذ عام 2023، بالتنسيق مع ديوان الخدمة المدنية، وبما يتيح عمل نسبة من الكادر عن بُعد، انسجامًا مع أحكام النظام المعتمد.

إلا أن مرور أكثر من عام على إقرار نظام العمل المرن لم ينعكس، في تطبيق واسع وفعلي على أرض الواقع، في وقت يشهد فيه العالم تحولًا واضحًا في مفهوم العمل، ويعاد فيه النظر في جدوى الاعتماد على ساعات العمل الطويلة كوسيلة لرفع الأداء.

وأظهرت ملخص سياسات أصدره منتدى الاستراتيجيات الأردني، استنادًا إلى بيانات منظمة العمل الدولية، أن الأردن جاء ضمن الدول الأعلى عالميًا من حيث عدد ساعات العمل مقارنة بمستويات الإنتاجية، ما يعكس مفارقة بين الجهد المبذول والعائد الفعلي منه.

وبيّن التحليل، الذي شمل بيانات 83 دولة خلال عام 2023، أن العلاقة بين متوسط ساعات العمل الأسبوعية ومتوسط الناتج لكل ساعة عمل تميل في المجمل إلى الاتجاه العكسي، إذ كلما ارتفعت ساعات العمل تراجعت إنتاجية العامل، والعكس صحيح، وهو ما يتعارض مع الانطباع السائد بأن زيادة ساعات الدوام ترفع الأداء.

ثقافة الإدارة تعيق التحول نحو العمل المرن

وفي هذا السياق، قال رئيس بيت العمال، حمادة أبو نجمة، إن العمل المرن في الأردن، ورغم إقرار إطار تنظيمي وتشريعي واضح له منذ سنوات، ما يزال يواجه محدودية في التطبيق على أرض الواقع، نتيجة مجموعة من العوامل التنظيمية والإدارية والثقافية التي حالت دون تحويل النصوص القانونية إلى ممارسات مؤسسية فعّالة.

وأوضح أبو نجمة خلال حديثه لـ”صدى الشعب” أن التشريعات الناظمة للعمل المرن، كما وردت في قانون العمل، شملت منذ سنوات عدة أشكال حديثة لتنظيم العمل، من بينها العمل عن بُعد، والعمل الجزئي، والساعات المرنة، وأسبوع العمل المكثف،

وأضاف أن هذا التطور التشريعي لم يُترجم في كثير من المؤسسات إلى سياسات داخلية واضحة أو إجراءات تنفيذية محددة، الأمر الذي أبقى العمل المرن في إطار نظري دون تطبيق عملي واسع.

وأشار إلى أن المشكلة الجوهرية تتمثل في أن جزءاً كبيراً من الإدارة المؤسسية ما يزال يربط مفهوم الانضباط الوظيفي بعدد ساعات الحضور داخل موقع العمل، وليس بجودة الأداء أو تحقيق النتائج، معتبراً أن هذا المنطق لم يعد منسجماً مع طبيعة سوق العمل الحديث، لا سيما في القطاعات المعرفية والخدمية التي تتيح إنجاز المهام بكفاءة عالية دون الحاجة إلى الوجود الفيزيائي الدائم.

وبيّن أبو أن تجارب العديد من الدول، إلى جانب ما أفرزته التحولات الرقمية المتسارعة، أكدت أن التركيز على نتائج الأداء يسهم في تقليل هدر الوقت ورفع مستوى الالتزام الوظيفي، في حين أن فرض منظومة صارمة للعمل من حيث الموقع وساعات الدوام غالباً ما يؤدي إلى حضور شكلي يقابله ضعف في الإنتاجية الفعلية.

وأضاف أن العمل المرن والعمل عن بُعد يشكلان، من هذا المنطلق، أداة مهمة لمعالجة مشكلات مزمنة في سوق العمل، من أبرزها ارتفاع معدلات الدوران الوظيفي، وتراجع الرضا الوظيفي، وهدر الوقت والموارد.

العمل المرن يخفف الهدر ويرفع الالتزام

وأوضح أن المرونة في تنظيم الوقت والمكان تخفف من أعباء التنقل، وتساعد على التوفيق بين متطلبات العمل والحياة الأسرية، وتسهم في استبقاء الكفاءات، خصوصاً بين النساء والشباب وأصحاب المسؤوليات الأسرية.

وأكد أن إدارة هذا النمط من العمل ضمن إطار واضح للمسؤوليات ومؤشرات الأداء لا ينتقص من الانضباط الوظيفي، بل يعيد تعريفه بصورة أكثر عدالة وفعالية، بما يعزز الثقة بين الإدارة والعاملين ويرفع مستوى الإنتاجية.

وأوضح أن تجربة العمل عن بُعد خلال جائحة كورونا، نها شكلت دليلاً عملياً على قدرة العديد من المؤسسات على الاستمرار في تقديم خدماتها والعمل بكفاءة دون الالتزام بنمط الدوام التقليدي، إلا أن أحد أبرز أوجه القصور تمثل في التعامل مع هذه التجربة على أنها ظرف طارئ، وليس فرصة حقيقية لإعادة بناء أنماط العمل بشكل مستدام.

وأشار إلى أن الدرس الأهم الذي لم يتم استثماره يتمثل في ضرورة الانتقال من إدارة قائمة على التواجد في مكان العمل إلى إدارة قائمة على الأداء، ومدعومة ببنية رقمية متطورة، وتدريب إداري متخصص، ونظم واضحة لحماية البيانات وضمان جودة العمل.

وأكد أهمية الأخذ بعين الاعتبار الأثر السلبي لساعات العمل الطويلة على صحة العامل واستقراره الوظيفي، لافتاً إلى أن الإفراط في ساعات العمل يرتبط بالإرهاق والتوتر وتراجع التركيز، وهو ما ينعكس سلباً على جودة الإنتاج والخدمات.

وأوضح أن التجارب على المستوى الوطني وفي مختلف دول العالم تشير إلى أن زيادة ساعات العمل لا تعني بالضرورة تحقيق أداء أفضل، بل قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج عكسية على مستوى المؤسسة والاقتصاد ككل.

وحول القطاعات الجاهزة لتطبيق، أشار إلى أن قطاعات تكنولوجيا المعلومات، والخدمات المالية، والمهنية، والاستشارية، ومراكز الاتصال، والتعليم والتدريب، تعد من أكثر القطاعات قدرة على تبني هذا النمط من العمل دون التأثير على جودة الخدمة، نظراً لإمكانية قياس مخرجاتها بشكل واضح.

وبيّن أن القطاعات التي تتطلب حضوراً ميدانياً مباشراً يمكنها تطبيق المرونة بشكل جزئي في الوظائف الإدارية والمساندة، دون أن يشمل ذلك الوظائف التشغيلية الأساسية.

وأكد على أن التحدي الحقيقي لا يكمن في النصوص التشريعية، التي وفرت الإطار القانوني اللازم، بقدر ما يكمن في ثقافة الإدارة السائدة وآليات التطبيق، مشدداً على أن التحول الفعلي نحو العمل المرن يتطلب تغييراً في عقلية القيادة الإدارية، وبناء نظم عمل تقيس الأداء بالنتائج، وتعزز الثقة والمساءلة في آن واحد.

وأشار إلى أنه دون هذا التحول، سيبقى العمل المرن مسألة نظرية لا تجد طريقها إلى التنفيذ، رغم الحاجة الملحة إليه في سوق عمل يواجه تحديات متزايدة على صعيد الإنتاجية والاستدامة.