صدى الشعب – كتب محمد علي الزعبي
في لحظات التحوّل الكبرى، لا تُقاس التجارب السياسية بعدالتها فور وقوعها، بل بقدرتها على الصمود أمام الزمن، فهناك أفكار تُحاكم بقسوة اللحظة لا بميزان الجدوى، وتُدان تحت ضغط الشارع والظرف، قبل أن يُمنح لها حقها في التفكير الهادئ، هكذا بدت تجربة هاني الملقي؛ تجربة وُضعت تحت مجهر الغضب العام، بينما كانت أفكارها تُقدَّم من موقع التخطيط لا ردّ الفعل، ومن منطق الدولة طويلة النفس لا الحسابات الآنية.
ليس من السهل مقاربة اسم دولة هاني الملقي دون أن يسبقه ضجيج كثيف؛ ضجيج مرحلة كانت فيها الدولة الأردنية تخوض اختبارًا اقتصاديًا وسياسيًا معقّدًا، وضجيج أطروحات كبرى طُرحت في زمن شديد الحساسية، فبدت للبعض مغامرات غير محسوبة، ولآخرين أحلامًا مؤجلة، لكن القراءة المنصفة لا تبدأ من الصخب، بل من المسافة التي تفصل الفكرة عن زمنها، والرؤية عن أدوات تنفيذها.
حين قدّم الملقي أطروحاته الكبرى، وعلى رأسها مشروع المدينة الجديدة والميناء البري، لم يكن يتحدث بلسان رئيس حكومة تقليدي، بل بعقل اقتصادي تخطيطي ينظر إلى الدولة كوحدة متكاملة تحتاج إلى إعادة توزيع للثقل السكاني واللوجستي، وفكّ الاختناقات المزمنة التي كبّلت عمّان وأضعفت تنافسية الاقتصاد الوطني، كانت تلك الأفكار، في لحظتها، أوسع من هامش القرار المتاح، وأكبر من قدرة الواقع السياسي والاجتماعي على استيعابها.
فالمدينة الجديدة لم تكن ترفًا عمرانيًا أو مشروعًا نخبويًا، بل رؤية لإعادة هندسة الجغرافيا الاقتصادية والاجتماعية، ونقل مركز الضغط السكاني والاستثماري، وخلق فضاء تنموي جديد يخفف العبء عن العاصمة ويعيد التوازن بين الأطراف والمركز، غير أن الفكرة اصطدمت بثقافة التخوّف من التغيير، وبسؤال التمويل، وبحساسية الرأي العام تجاه المشاريع طويلة الأمد التي لا تُنتج نتائج فورية.
أما الميناء البري، فقد شكّل قراءة متقدمة لدور الأردن اللوجستي في الإقليم، ومحاولة جادة لإعادة تموضع الدولة على خريطة النقل والتجارة، مستندًا إلى الموقع الجغرافي والدور التاريخي للأردن كممرّ استراتيجي، وفي السياق ذاته، اشتغلت حكومة الملقي بعمق على ملف العقبة بوصفها الذراع الاقتصادية واللوجستية الأهم للدولة، حيث أُنجزت دراسات مؤسسية معمّقة حول بناء ميناء جديد، وُضعت على طاولة سلطة إقليم العقبة الاقتصادية الخاصة، مستندة إلى قراءة دقيقة لحركة التجارة، وتوسّع الموانئ الإقليمية، ومستقبل سلاسل التوريد.
هذه الدراسات لم تنظر إلى الميناء بوصفه منشأة تشغيلية فقط، بل كمنظومة تنموية متكاملة تعيد تعريف دور العقبة، وتعزّز قدرتها التنافسية، وتفتح المجال أمام أذرع تنموية جديدة في مجالات الصناعة والخدمات والنقل والتخزين، ورغم أن التنفيذ الكامل لهذه الرؤية تعثّر في حينه، إلا أن جوهرها بقي حاضرًا في العقل المؤسسي للدولة، وعاد للظهور لاحقًا بصيغ مختلفة، وبخطاب أقل حدّة، وعلى يد حكومات متعاقبة، وهنا تكمن المفارقة الأهم في تجربة هاني الملقي؛ فالكثير مما وُصف بالأمس على أنه طرح غير واقعي أو سابق لأوانه، بات اليوم جزءًا من النقاش الرسمي الهادئ حول التخطيط الحضري، والنقل، واللوجستيات، ودور العقبة في الاقتصاد الوطني، ما تغيّر لم يكن الفكرة بقدر ما تغيّر السياق، وأدوات الطرح، وقدرة الدولة على التدرّج في التنفيذ.
إن تقييم تجربة الملقي لا يكتمل دون الفصل بين الرؤية وقسوة اللحظة السياسية، فهو لم يفتقر إلى الجرأة في التفكير أو العمق في الطرح، لكنه واجه واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا شديد التعقيد، في مرحلة كانت فيها الدولة مضطرة لاتخاذ قرارات صعبة تحت ضغط الشارع والالتزامات المالية والإقليمية، وربما كان التحدي الأكبر أن الطموح سبق القدرة على الإقناع، وأن الفكرة العميقة طُرحت في مناخ لا يحتمل الشرح الطويل.
اليوم، وبين ضجيج الماضي وهدوء الحاضر، تبدو تجربة دولة هاني الملقي بحاجة إلى إعادة قراءة لا تنطلق من الأحكام المسبقة، بل من فهم أعمق لمسار الدولة الأردنية، وكيف تُقابل بعض الأفكار بالرفض حين تُولد، ثم تعود لاحقًا وقد تخلّصت من قسوة اللحظة، محتفظة بعدالة الفكرة .






