أبو نجمة: تركّز التدريب المهني في مهن تقليدية يترك آلاف الفرص غير مشغولة
عايش: سوق العمل الأردني متحيز للعمالة الأقل كلفة والأدنى مهارة
صدى الشعب – سليمان أبو خرمة
تشكل أزمة البطالة في المملكة أحد أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط بسبب ارتفاع نسب المتعطلين عن العمل، وإنما نتيجة الاختلالات العميقة التي يعانيها سوق العمل في قدرته على استيعاب القوى العاملة المحلية بكفاءة. فبين وفرة الباحثين عن فرص عمل، وتنامي احتياجات قطاعات إنتاجية محددة، يبرز سؤال جوهري حول طبيعة العلاقة بين العرض والطلب في السوق المحلي.
ويرى العديد من المختصون أن المشكلة لا تكمن في عدد الوظائف المتاحة بقدر ما تتعلق بخصائص هذه الوظائف، من حيث الأجور، والاستقرار، وشروط العمل، ومسارات التطور المهني، إضافة إلى مستوى مواءمة برامج التعليم والتدريب مع الواقع الفعلي للقطاعات الاقتصادية، ما يحد من قدرة سوق العمل على استثمار الطاقات البشرية المتوفرة.
وفي ظل الجهود الرسمية الرامية إلى تطوير منظومة التدريب المهني وتعزيز التشغيل، تتزايد الدعوات لإعادة النظر في النموذج القائم، والانتقال من حلول جزئية إلى معالجة بنيوية تعالج جذور الخلل، وتعيد رسم العلاقة بين التدريب والتشغيل، وتضمن دورًا أكثر فاعلية للقطاع الخاص في بناء الكفاءات الوطنية.
يذكر أن معدل البطالة في المملكة سجل انخفاضا طفيفا بواقع 0.1%، خلال الربع الثاني من عام 2025 قياسا بالفترة المقابلة من العام الماضي، ليصل إلى 21.3 %، وفقا لبيانات دائرة الإحصاءات العامة.
ضعف الأجور وبيئة العمل يحولان آلاف الوظائف إلى فرص غير جاذبة
وبهذا الإطار، أكد رئيس مركز بيت العمال للدراسات حمادة أبو نجمة، أن التناقض الظاهري القائم بين استمرار ارتفاع معدلات البطالة في الأردن من جهة، والإعلان المتكرر عن آلاف فرص العمل الشاغرة في قطاعات حيوية من جهة أخرى، لا يمكن تفسيره أو اختزاله في عامل واحد، بل هو نتاج خلل هيكلي متراكم في سوق العمل الأردني على مدار سنوات.
وأوضح أبو نجمة خلال حديثه لـ”صدى الشعب” أن سوق العمل لا يعاني فقط من نقص فرص العمل، وإنما من ضعف نوعية جزء كبير من هذه الفرص، سواء من حيث مستويات الأجور، أو الاستقرار الوظيفي، أو شروط العمل، أو مستوى الحمايات الاجتماعية، الأمر الذي يجعل العديد من الوظائف غير جاذبة لشريحة واسعة من الباحثين عن عمل، لا سيما فئة الشباب، في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الراهنة.
وبيّن أن الحديث عن فجوة المهارات في سوق العمل الأردني يُعد صحيحًا إلى حد ما، إلا أنه لا يقدم الصورة الكاملة للمشكلة، مشيرًا إلى وجود عدم مواءمة بين مخرجات التعليم والتدريب من جهة واحتياجات بعض القطاعات الاقتصادية من جهة أخرى، غير أن الخلل الأعمق يتمثل في غياب منظومة متكاملة تربط بين التدريب والتشغيل الفعلي.
برامج التدريب الحالية لا تقود إلى تشغيل حقيقي
وأشار إلى أن العديد من برامج التدريب ما تزال تُنفذ بمعزل عن وجود التزام حقيقي من أصحاب العمل بتشغيل المتدربين، أو دون ربطها بمسارات مهنية واضحة تضمن للعامل تطورًا وظيفيًا ودخلًا لائقًا على المدى المتوسط والطويل، الأمر الذي يفسر محدودية أثر هذه البرامج، خصوصًا في قطاعات تعاني فعليًا من نقص في العمالة، مثل الصناعات البلاستيكية وقطاع الصياغة، حيث تبقى الشواغر الوظيفية قائمة رغم تكرار برامج التدريب.
ولفت إلى أن التدريب المهني في الأردن ما يزال، في معظمه، محصورًا في مهن تقليدية ومجالات محدودة، ولا يواكب بالشكل الكافي التحولات التي طرأت على هيكل الاقتصاد الوطني، ولا احتياجات القطاعات الإنتاجية الجديدة أو المتخصصة، رغم وجود جهود في هذا المجال يتم تقديرها، مبينًا أن هذا التمركز الضيق في تصميم البرامج التدريبية يسهم في بقاء آلاف فرص العمل غير مشغولة، ليس فقط بسبب نقص المهارات، وإنما لأن برامج التدريب نفسها لا تُصمم بناءً على طلب حقيقي ومستدام من سوق العمل.
وأكد أن دور بيئة العمل ومستويات الأجور لا يمكن إغفاله عند الحديث عن عزوف الشباب عن الانخراط في عدد من القطاعات، إذ تتسم العديد من الوظائف المتاحة بأجور منخفضة، وساعات عمل طويلة، وظروف عمل شاقة، وفي أحيان كثيرة دون شمول فعلي بالضمان الاجتماعي أو توفير حماية من الفصل التعسفي، مشددًا على أن عزوف الشباب في مثل هذه الظروف يُعد خيارًا عقلانيًا، وليس تعبيرًا عن كسل أو ترف في الاختيار، خاصة في ظل ارتفاع كلفة المعيشة وتآكل القوة الشرائية للأجور.
وبيّن أن الصورة النمطية المرتبطة بالعمل المهني لم تعد العامل الحاسم في عزوف الشباب كما كانت في السابق، موضحًا أن المشكلة اليوم أعمق وتتعلق بالجدوى الاقتصادية لهذه الوظائف، حيث إن تغيير الصورة الذهنية وحده لا يكفي لدفع الشباب نحو هذه المهن ما لم يوفر العمل دخلًا كافيًا، واستقرارًا وظيفيًا، وأفقًا حقيقيًا للتطور المهني، مهما بلغت كثافة الحملات التوعوية.
وشدد على أن متطلبات سوق العمل الأردني في المرحلة الحالية لا تقتصر على توسعة برامج التدريب المهني من حيث العدد أو العناوين، بل تستدعي إعادة هيكلة شاملة لمنظومة التدريب والتشغيل، تقوم على ربط مباشر وواضح بين التدريب وفرص العمل الفعلية، وإشراك أصحاب العمل بشكل حقيقي في تصميم البرامج التدريبية، وربط الدعم والحوافز المقدمة لهم بالتزامهم بتشغيل العمالة المحلية وتحسين شروط العمل.
وأكد أن رفع مستويات الأجور وتعزيز الحمايات الاجتماعية يشكلان عنصرًا أساسيًا في أي مقاربة جادة لمعالجة اختلالات سوق العمل، محذرًا من أن استمرار التعامل مع فجوة المهارات بوصفها المشكلة الرئيسية سيُبقي جذور الأزمة قائمة، ولن يشكل مدخلًا حقيقيًا لحلها ما لم يُعالج الخلل البنيوي الأوسع في سوق العمل الأردني.
إنتاجية العمالة الأردنية منخفضة
من جهته أكد الخبير الاقتصادي حسام عايش أن مسألة وجود فرص عمل غير مشغولة في الأردن لا يمكن النظر إليها ببساطة على أنها مجرد شواغر متاحة، مشيرًا إلى أن طبيعة هذه الوظائف ومتطلباتها والمعايير المستخدمة في التوظيف قد تختلف عن ما هو متاح في سوق العمل المحلي، وهو ما قد يكون سببًا رئيسيًا وراء عدم إشغالها.
وأوضح عايش خلال حديثه لـ”صدى الشعب” أن عدم إشغال الأردنيين لهذه الفرص يرتبط غالبًا بمستوى الأجر أو الراتب الذي توفره هذه الوظائف، والذي قد يكون أقل مما يمكن أن يوفر دخلاً متناسبًا مع الجهد المبذول والتكاليف المرتبطة بالوصول إلى مكان العمل، بما في ذلك خدمات النقل وساعات الدوام الطويلة.
وأضاف أن غياب الحوافز الملائمة والحماية القانونية والضمان الاجتماعي وسوء بيئة العمل، بالإضافة إلى محدودية فرص التقدم الوظيفي، كلها عوامل تساهم في عزوف العمال عن شغل هذه الوظائف، رغم الدعوات المستمرة للانخراط فيها.
وشدد على ضرورة التمييز بين فرص العمل الحقيقية والقابلة للاستثمار وبين تلك التي يمكن اعتبارها “ضائعة” أو غير مجدية على المدى الطويل، مؤكدًا أن أي وظيفة يُفترض أن توفر دخلاً جيدًا وبيئة عمل مناسبة ومحمية قانونيًا، كي تُعد فرصة حقيقية للشباب الباحثين عن العمل.
وأشار إلى أن سوق العمل الأردني يفتقر للكفاءة في إدارة الوظائف والمعايير المستخدمة لتحديد العمالة المطلوبة، موضحًا أن العمالة الوافدة تشكل نحو 45 إلى 50% في بعض القطاعات، وهو ما يعكس ميل السوق نحو توظيف الأشخاص ذوي المهارات الأقل والتكاليف الأدنى، ما يقلل من فرص الأردنيين في الوصول إلى وظائف متقدمة أو ذات قيمة مهارية عالية.
وأكد أن هذا الواقع يعكس محدودية التقدم التقني والمعرفي في القطاعات الاقتصادية، وبالتالي فإن الوظائف المتاحة غالبًا ما تكون منخفضة الإنتاجية والأجر، مع فرص ضئيلة للتطور المهني.
الفوضى بسوق العمل تمنع استثمار الفرص المتاحة
وأوضح أن مسؤولية معالجة هذا الخلل تقع على عاتق الجميع، بما في ذلك الحكومة والقطاع الخاص، من خلال رفع كفاءة القطاعات الاقتصادية عبر تطوير مهارات العاملين، وتحسين التقنيات والتكنولوجيا المستخدمة، وتنظيم سوق العمل عبر آليات ومنصات متخصصة تشرف عليها الجهات الرسمية بالتعاون مع القطاع الخاص.
كما دعا إلى دعم إقامة المشاريع الصغيرة والمتوسطة للشباب، من خلال توفير التمويل المناسب، وتعزيز القيمة المضافة المحلية، وتشجيع الاستهلاك الحكومي لهذه المشاريع لتعزيز نموها واستدامتها.
وأكد أن إنتاجية العمالة الأردنية منخفضة، وتتراجع وفق دراسات مختلفة، ومنها دراسات المنتدى الاستراتيجي، حيث تتكدس العمالة في قطاعات منخفضة الإنتاجية، ما يستدعي تعويض الإنتاجية بمزيد من العمالة.
وأضاف أن ساعات العمل الطويلة في الأردن مقارنة بالدول الأخرى، وعدم كفاءة الخدمات العامة والقطاع الحكومي، يؤدي إلى وجود “بطالة مقنعة” قد تصل إلى ثلث أو نصف العاملين في بعض القطاعات، وهو ما يقلل من الأداء الاقتصادي ويكبح النمو، ويؤثر سلبًا على الناتج المحلي الإجمالي وعلى العائد من العملية الاقتصادية، وخاصة في القطاعات التصديرية.
وأشار إلى أن قطاع العمل في الأردن ما زال يعاني من الفوضى، بسبب طريقة إدارة السوق من جميع الأطراف، بما في ذلك العاملون والحكومة والقطاع الخاص، إضافة إلى أحيانًا غموض الأنظمة والقوانين وتفسيراتها لصالح طرف دون الآخر، ما يؤدي إلى شعور واسع بالغبن لدى العاملين وردود أفعال سلبية من القطاع الخاص تجاه أي تحسين في معدلات الدخل أو الحد الأدنى للأجور.
واشار إلى أن هذه الظروف تخلق فجوات كبيرة في سوق العمل، تؤدي إلى وجود فرص عمل مهدورة، لا تُستثمر بالشكل الأمثل.






