صدى الشعب – كتب عبد الهادي راجي المجالي
كيف يتعامل ترامب مع الإعلام ….لو قال رئيس الوزراء لدينا جعفر حسان لصحفي : أنت غبي – وعلى الهواء مباشرة- لسقطت الحكومة في اليوم الثاني ..ولو قال وزير الخارجية لصحفي على الهواء مباشرة : أنت ساذج ومحطتك كاذبة ..لاستقال الوزير .
في بلادنا يدللون المهنة ، ويحتقرون الوعي ..بعكس مصر مثلا : التقدير أولا للوعي ، ومن ثم لمهنة الصحافة …هيكل في مصر لم يكن صحفيا كان مفكرا ومرجعا للدولة في رسم السياسات ، طارق عزيز في العراق حين صعد من رئاسة تحرير جريدة الجمهورية للقيادة القومية والقطرية ، كان منظر حزب البعث ..كان هو من أعاد صياغة نظرية البعث ، خلافا للشرخ الذي أوجده منيف الرزاز في النظرية ومحاولة الإنقلاب على جذور الحزب .
نحن لدينا الإعلام لايقدم وجبة وعي بقدر ما يقدم : مشاكل المطبات ، نقص إبر الأنسولين ، أم العبد طردت من غرفة تصوير الأشعة …، الوزير يصرخ على مواطن ، هوشة في مجلس النواب ، مركز صحي قفقا مغلق ، العثور على قدم بشرية في جناعة …الخ .
تابعوا المواقع ، تابعوا الإذاعات ، تابعوا البرامج المحلية ..كل ما يقدم في الإعلام هو ما يسمى ( عويل اللطامات) لكن السؤال هو: أين الوعي في مشهدنا الإعلامي ؟ …
قبل أكثر من (25) عاما ، كانت الصحف الأسبوعية هي السائدة ..لكن ما كان يقدم فيها من وجبات الوعي ، أضعاف ما تقدمه المواقع الإخبارية …كنا نقرأ تجاذبات احمد سلامة وبلال التل ، جنون نايف الطورة ، كان أحمد أبو خليل يقدم مقالا ساخرا في الإقتصاد يمثل أيقونة في فن المقال ….كان فهد الريماوي يعيد انتاج الناصرية من جديد ويدافع عنها ، كنا نختطف ليث شبيلات لشيحان ..ويهاجم الإخوان عبر منهج وليس عبر صراخ وصخب ، والإخوان كانوا يحترمون من يهاجمهم …كان سليمان عرار يصرح لنا ، وخالد باشا الطراونة يحدثنا عن حقبة الضباط الأحرار ..نذير رشيد كان يمسك بزمام الداخلية ، كنا نخشى هذا الرجل …وندخل الوزارة خلسة دون أن يعرف أحد أننا دخلناها ..
وكنا نعرف معادلة مهمة في الإعلام ونطبقها على أرض الواقع وهي : ( ما حدا يتمرجل ع الدولة ) …حتى الحكومات لم تكن تسمح لأحد بممارسة (المرجلة الصحفية عليها ) ..عبدالسلام المجالي ونذير رشيد كانت قصة إيقاف الصحفي لديهم أسهل من شرب فنجان قهوة .
ما يحدث الان في المشهد هو أشبه ( بعويل اللطامات) …هو (مرجلة على الدولة) و( مرجلة على الحكومة ذاتها) ..والسبب هو تغليب المهنة على الوعي ، بمعنى أننا لم نعد نحترم العقل في الصحافة بقدر ما صرنا نحترم الشاشة والخبر ..حتى لو كان هذا الخبر يحتوي على ألف خطأ نحوي ، حتى لو كان كاذبا أو مفبركا ..
لو عادت الدولة قليلا لزمن طاهر العدوان في العرب اليوم ، ستجد أن طاهر كان يدل الدولة على بعض الإختلالات في خطابها الإعلامي ، طاهر كان منظرا وأديبا وسياسيا ، فرض احترامه على الجميع ..عبر سيرة نضالية عظيمة في الثورة الفلسطينية ، وعبر حصاد من المعرفة والمواقف لايمتلكه أحد ، لكن طاهر لم يمارس في حياته المرجلة على الدولة أو على الحكومات … بل قدم الوعي .
هل صغرت مهنة الصحافة لدينا ، بحيث تحولت من صياغة مشهد وطني وتقديم حلول للدولة ، وممارسة التنوير ..إلى اعتبار تأجيل موعد أم العبد للرنين المغناطيسي في مستشفى البشير ، كارثة وطنية ؟.
المشهد يحتاج للضبط ، والمشهد يحتاج لحكومة لاتسمح لأحد بممارسة (المرجلة) عليها ….والمشهد يحتاج لأن تتحالف الدولة مع العقل مع الوعي مع المشروع ، وليس مع مغامرات لمتقاعدين وجدوا في الكتابة ضالتهم .
أزمة الدولة الأردنية ليست فقط في مشروعها الوطني المتعثر ، وليس في حالتها الإقتصادية المؤلمة ، أزمتها تكمن في أن الجميع صار (يستزلم ويسترجل) عليها …صغرت المؤسسات لابل انكمشت ، ثم غاب الوعي …و(عويل اللطامات) استولى على المشهد .






