صدى الشعب – أسيل جمال الطراونة
يؤكد الدكتور يزن التل، الأستاذ المشارك في كلية الآثار والسياحة – قسم إدارة المصادر التراثية في الجامعة الأردنية، أن التراث الثقافي غير المادي يشكّل حجر الأساس في تكوين الهوية الوطنية.
ويوضح أن اليونسكو عرّفت هذا النوع من التراث بأنه الفنون الأدائية والممارسات الاجتماعية والمعارف المرتبطة بالطبيعة، وكل ما نعيشه ونمارسه وننقله من جيل إلى جيل، وهو ما تربّى عليه الأردنيون وما زالوا يحتفظون به بوصفه جزءًا من ذاكرتهم الجمعية.
ويشير التل إلى أن هذا التراث يمتد من التقاليد الشفوية التي عرفها المجتمع منذ القدم، مثل الأمثال الشعبية، والقصص التراثية، والحكايات التي كانت تُروى في البادية، إلى جانب القصائد الملحمية والشعر النبطي والبدوي، وصولًا إلى رقصات السامر التي تجمع بين القصائد المحكية والأداء الجماعي. كما يشمل التراث أيضًا الفنون الأدائية التي ما زالت حاضرة في المناسبات الاجتماعية، مثل الدبكة بأنماطها المتنوعة بين مناطق الشمال وحوران، والدحية البدوية، والتسحيج والسحجة، والرقصات البدوية والحضرية، بما يعكس التنوع الثقافي في المجتمع الأردني.
ويمتد هذا التراث ليشمل الممارسات الاجتماعية التي رافقت الأردنيين في أفراحهم ومناسباتهم المختلفة، كطقوس الأعراس التقليدية، والحنّة، وزفة العروس، بالإضافة إلى مواسم الحصاد وقطف الزيتون، وطقوس الضيافة والكرم التي ارتبطت بالقهوة السادة المسجّلة لدى اليونسكو كتراث غير مادي، إلى جانب المنسف الذي يمثل أيقونة المطبخ الأردني. وتندرج الاحتفالات الدينية والمناسبات الوطنية ضمن هذه الممارسات التي عززت الروابط بين أبناء المجتمع.
ويلفت التل إلى أن المعارف التقليدية التي عرفها الأنباط وانتقلت عبر الأجيال لعبت دورًا مهمًا في تكوين جزء كبير من التراث غير المادي، مثل تقنيات جرّ المياه وإدارة الموارد المائية، وبناء السدود والقنوات التقليدية. هذه الأنظمة القديمة ليست مجرد بقايا تاريخية، بل دليل على قدرة الأردنيين على التكيف مع بيئتهم وتحقيق الاستدامة في حياتهم. ويضيف أن هذه المعارف رافقتها مهارات يدوية متوارثة أسهمت في نشوء الحرف التقليدية مثل صناعة الفخار النبطي المعروف بدقته ورقته التي تشبه قشرة البيض، والتطريز الأردني بمدرقته ونقوشه الدالة على هوية كل منطقة، وصناعة الفسيفساء في مادبا، وفن الأرابيسك، وصناعة السيوف والخناجر التراثية.
ورغم غنى هذا التراث، إلا أن تحديات عدة تهدد استمراره، أبرزها ضعف التوثيق العلمي للممارسات التقليدية، وهو ما دفع وزارة الثقافة لإنشاء دائرة خاصة بالتراث الثقافي غير المادي للمحافظة على ما تبقى من هذا الموروث.
كما تشكّل العولمة وهيمنة الجيل الرقمي أحد أهم التحديات، إذ تبتعد الأجيال الجديدة تدريجيًا عن ممارساتهم التراثية لصالح أنماط ترفيهية حديثة. ويضاف إلى ذلك قلة الدعم والتمويل المخصص للحرف التقليدية، رغم جهود مؤسسات مثل مؤسسة نهر الأردن التي عملت على تمكين الأسر الريفية وتعليمها الحرف التراثية.
ويؤكد التل أن الحفاظ على هذا الإرث يتطلّب ربطه بأهداف التنمية المستدامة، وإيجاد برامج اقتصادية وسياحية تسهم في خلق فرص عمل وتنويع مصادر الدخل، إلى جانب تطوير المهرجانات والفعاليات التي تحتفي بالتراث المادي وغير المادي، وإدراج محتوى أكبر ضمن المناهج التعليمية لتعزيز الوعي به. كما يشدد على أهمية دعم الحرفيين الذين حملوا هذه المهارات عبر العقود.
ويبين أن محافظات الأردن الاثنتي عشرة تتشارك في أكثر من 90% من عناصر التراث غير المادي، إلا أن التنوع الديموغرافي الناتج عن دخول مجموعات مثل الشركس والأرمن والدروز واللاجئين الفلسطينيين أضاف تناغمًا ثقافيًا فريدًا انعكس على الأزياء والمطبخ واللغة والرقصات، مما خلق مزيجًا متجانسًا يتميز به المجتمع الأردني دون غيره.
أما الحكايات الشعبية والأمثال، فيوضح التل أنها كانت جزءًا رئيسيًا من حياة الأردنيين قبل انتشار الإذاعة والتلفزيون، إذ شكّلت وسيلتهم للتسلية ونقل الحكمة، وامتدت أهميتها حتى منتصف الستينات. ورغم تراجع حضورها اليوم، إلا أن كتّابًا ومؤسسات ثقافية أعادوا إحياءها من خلال جمعها وتوثيقها، مثل تسجيلات الستينات والسبعينات المحفوظة لدى وزارة الثقافة، وكتب الباحث أحمد عويد العبادي، إضافة إلى جهود الوزارة لإعادة تقديم الأمثال الشعبية بأسلوب ممنهج.
ويختتم التل بالتأكيد على أن التحول الرقمي يلعب دورًا مهمًا في حفظ التراث غير المادي ونشره، إذ يتيح نقله بسهولة عبر الوسائط الإلكترونية، سواء بصيغة تسجيلات صوتية أو فيديوهات أو نصوص رقمية، مما يساعد على نشره محليًا وعالميًا ويمنحه فرصة جديدة للعيش في ذاكرة الأجيال المقبلة.
