صدى الشعب – كتب: فيصل تايه
في كل مرحلة يتقدم فيها الوطن خطوة إلى الأمام، يقف التاريخ على أبواب ذاكرتنا، كأنه يهمس : لا تنسوا من أنتم ، والطريق الذي جئتم منه، ولا تتركوا الحكاية تروى بغير أبطالها ، ومن بين هذا النداء المتجدد، تخرج كلمات سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، لتعيد فتح السؤال الأكبر : كيف نكتب السردية الأردنية كما يجب؟ وكيف نصون ذاكرة وطن ولد من الحكمة والصلابة، ونما تحت ظل الهاشميين، واشتد عوده رغم قلة الموارد وكثرة التحديات؟
“السردية الأردنية” ليست سرداً للتاريخ بقدر ما هي تعريف للهوية وإعادة تموضع للأمة أمام ذاتها وأمام العالم ، بل إنها مزيج الفعل والذكرى، العرق والبطولة، دموع الأمهات في الليالي الصعبة، ونبض الجنود على الحدود، وصبر الناس الذين عاشوا دهشة التحولات مع كل عقد جديد ، هي قصة وطن لم ينتظر أن تمنحه الجغرافيا مكانة، بل صنع لنفسه مكانته ، وطن ظل صغيراً في الخرائط، كبيراً في أثره، ثابتاً أمام الأمواج التي أطاحت بغيره.
إن دعوة سمو ولي العهد إلى توثيق السردية ليست خطاباً عابراً ، بل هي توجيه لأمة كي تعيد النظر في علاقتها مع ذاكرتها ، لأن الذاكرة إن لم تكتب، تسرق ، وإن لم تؤرشف، تتبعثر ، وإن لم تقدم للأجيال كما هي، سيعيد الآخرون صياغتها كما يشاؤون ، ونحن، أمام هذا العالم المتخم بالسرديات، لا نملك ترف الصمت ولا رفاهية التأجيل.
لقد مر الأردن بمحطات صنعت هويته : من بناء الدولة الأولى بإمكانات شحيحة، إلى حماية حدوده وسط العواصف الإقليمية، إلى مواقفه المشرفة في الحرب والسلم ، وصولاً إلى مرحلة التحديث والإصلاح التي يعيشها اليوم ، لكن هذه المحطات، على أهميتها، ما تزال متناثرة في الوعي العام ، بعضها في الكتب، بعضها في أرشيف شخصي، بعضها في ذاكرة الكبار الذين يرحلون بلا تسجيل، وبعضها تغطيه ضوضاء عصر سريع لا ينتظر أحداً .
ولذلك، فإن توثيق السردية ليس عملاً حكومياً فقط، بل هو مشروع وطني جامع ، مشروع يحتاج إلى المؤرخ كما يحتاج إلى الراوي الشعبي، يحتاج إلى الأكاديمي كما يحتاج إلى المصور، يحتاج إلى الصحفي الذي يرى ما بين السطور، وإلى الشاب الذي يفتح هاتفه ليصنع محتوى يدون اللحظة ، فالسردية ليست وثيقة تحفظ في درج، بل روح تنقل من جيل إلى جيل.
الأردن بحاجة إلى أن يكتب قصته بنفسه، وأن يكتبها كما حدثت، لا كما تقدم في الفضاء المزدحم بالسرديات المتناقضة بحاجة إلى أن يعرض للعالم كيف ظل ثابتاً بينما اهتز الإقليم ، وكيف بنى دولته المدنية الحديثة دون أن يفقد أصالته، وكيف جمع بين الحكمة الهادئة والقوة حين تستدعي المواقف ، بحاجة إلى أن يقول لأبنائه : هذه ملامحكم، وهذه جذوركم، وهذا ما فعله آباؤكم كي تنعموا اليوم بالأمن والانتماء والطمأنينة.
إن السردية الأردنية يجب أن تتحول إلى مشروع شامل : أرشيف وطني رقمي ، قصص مصورة، شهادات حية، مناهج تربط الطالب بتاريخ وطنه بلغة يفهمها، أعمال درامية تستعيد اللحظات المفصلية، وقاعدة بيانات تحفظ الوثائق والصور والتجارب قبل أن تتبخر ، فالدول التي تحفظ سرديتها تحفظ وجودها، والأمم التي تكتب حكايتها تصنع مستقبلها.
اليوم، ومع هذه الدعوة الهاشمية العميقة، تتاح لنا فرصة نادرة : أن نعيد ترتيب قصتنا الوطنية، أن نضعها في يد أبنائنا كاملة وصادقة، أن نصوغها بصوتنا قبل أن يصوغها غيرنا ، أن نقول للأردني أين كان وطنه، وكيف أصبح، وإلى أين يسير ، وأن نري العالم ما لم يقرأه بعد عن هذا البلد الصغير بحجمه، الكبير برسالته.
وأخيرا ، فالأردن ليس خطوطا على خريطة ، الأردن قصة ، وقصتنا تستحق أن تروى جيداً ، وأن تروى الآن، وأن تروى بصوتنا نحن .
والله ولي التوفيق






