صدى الشعب – كتب: فيصل تايه
في طولكرم ، حيث الأرض تتنفس التاريخ وتحتضن كل من أحبها، ولد رجل لم يعرف طريقه إلا نحو فلسطين، رجل حمل الوطن في قلبه قبل أن يعرف العالم من حوله، وكتب اسمه على صفحات الحياة بصموده وإخلاصه، رجل جعل من كل يوم عاشه شهادة حية على أن الحرية لا تهدى، بل تنتزع بكل دمعة، وبكل جهد، وبكل نبضة قلب.
هذا هو محمد علي صالح التايه ، “أبو عكرمة”، الذي لم يعرف الاستسلام، ولم يسمح لأي قيد أن يوقفه، والذي جعل من حياته لوحة كبيرة من الصمود والتفاني، لوحة ترويها الأرض قبل الكتب، والقلوب قبل التاريخ.
لم يكن “أبو عكرمة” مجرد مناضل ، ولم يكن مجرد سياسي أو شاعر ، بل كان روح الأرض نفسها، يعرف أن فلسطين ليست حدوداً على الخريطة، بل شعلة في القلوب، وعهداً في الوجدان، ومسؤولية لا تنتهي ، فمنذ صغره في أزقة طولكرم ، تشرب حب الوطن، وكل حجر وكل شجرة كانت تنطق له بحكايا الأجداد، وفي الكلية الإسلامية بالقدس، تعلم أن الكلمات أحياناً تكون أكثر قوة من الرصاص، وأن القيادة الحقيقية ليست في المنصب، بل في القدرة على أن يكون صوت كل من فقد صوته، وملاذ كل من ضاعت حقوقه.
أسس التجمع الطلابي الفلسطيني، واحتفظ بجرس المسؤولية في قلبه، ليصبح صوت الشباب في زمن القسوة والقهر، حيث لم يكن أحد يصدق أن النضال سيستمر، وأن الصمود سيبقى. وكل فعل قام به كان يحمل بعداً أكبر من مجرد حدث، كأنه يرسم خارطة وطنية كاملة من المواقف والأحلام ، ففي صمته كانت حكاية آلاف الشباب، وفي كتاباته كان صدى كل صوت خاف أن يسمع.
حين اندلعت الثورة، كان “أبو عكرمة” حاضراً في الصفوف الأمامية، ليس بحثاً عن المجد، بل لأنه كان يعرف أن الوطن لا يحمي إلا بالتضحية، وأن الحرية لا تنتزع إلا بشجاعة القلب وصلابة الإرادة ، حيث ان اعتقاله وحكمه بالإعدام لم يكسرانه ، فست سنوات في السجن كانت مدرسة أخرى، صاغت عزيمته، وعلمته كيف يكون الثبات أبلغ من أي كلام ، وكيف يمكن أن يظل الوطن حياً في روح الإنسان مهما حاولت القيود أن تكبله ، كان يرى الجدران حوله كأنها صمت الأرض التي تنتظر أن ينطق بها، ويقرأ كل وجه زميل مسجون كأنه صفحة من صفحات الوطن لم تكتب بعد.
ورغم النضال السياسي والاجتماعي، لم ينس “ابا عكرمة” الشعر، فقد كان الكلمة عنده سلاحاً ، ووسيلة للروح قبل أن تكون للناس ، ففي قصيدته لرثاء الشيخ القسام، تنبض الكلمات كما لو أنها دماء تتدفق من قلبه مباشرة إلى قلب كل فلسطيني : الحرية لا تموت ، والصمود يبقي الأرض حية، والفداء سبيل من يريد أن يرى وطنه حراً لا يذل ، وفي لحظة قراءة أبياته، تشعر وكأنك تمشي في الغابات التي شهدت الثورة، تسمع صدى خطوات المقاومين، وتشعر بالرياح التي تحرك أغصان الزيتون كما لو كانت تحمل صوته عبر الزمن .
حتى بعد النكبة، ظل “ابا عكرمة” حاضراً في طولكرم، بين الناس، يعيش بينهم ويزرع الأمل، يعلم ويغرس في نفوس الأجيال معنى الانتماء ، حتى وهو مديراً لمدرسة نور الدين زنكي، لم يكن مجرد مسؤول، بل كان قدوة حية لكل من مر على أبوابها، يفتح لها أبواب قلبه قبل أبواب المدرسة، ويخبر كل طالب أن فلسطين موجودة في كل خطوة، في كل كلمة، في كل درس ، فكان يزرع فيهم شعوراً بأن الحرية مسؤولية يومية، وأن الأرض التي نحبها تستحق أن نصنعها بأيدينا، ونحميها بقلوبنا قبل أي شيء.
محمد علي الصالح التايه ، لم يكن مجرد رجل مناضل ، بل كان عنواناً للثبات ، رمزاً للوفاء، وأيقونة لأولئك الذين يكتبون تاريخ فلسطين بأفعالهم قبل أقلامهم ، إرثه باق، حيّاً في كل قصة، في كل كلمة، وفي كل فلسطين لم تنحن بعد .
قصة “أبو عكرمة” ليست مجرد سطر في تاريخ النضال، بل هي خيط الحياة الذي يربط الماضي بالحاضر، والأجيال ببعضها، لتبقى فلسطين حية في قلب كل من يعرف أن الحرية هي الغاية، وأن الصمود هو الطريق.
والله بالغ امره
