صدى الشعب – كتب محمد علي الزعبي
المديونية ليست رقمًا على ورق، بل مرآةٌ لسياساتٍ تراكمت، وقراراتٍ صيغت تحت ضغط الواقع ومحدودية الخيارات، ليست عيبًا بحدّ ذاتها، لكنها قد تتحول إلى عائقٍ إن لم تُدار بحكمةٍ واقعية توازن بين حاجات الدولة وطاقتها على السداد.
وحين نتحدث عن المديونية في عهد حكومة دولة جعفر حسان، فإن الإنصاف يقتضي قراءة الأرقام ضمن سياقها، لا عبر عناوين عابرة أو انطباعات آنية. فالأرقام – كما وردت في بيانات وزارة المالية – تشير إلى أن الدين العام ارتفع من 44.1 مليار دينار إلى 46.8 مليار دينار حتى نهاية آب 2025، بزيادةٍ مقدارها نحو 2.7 مليار دينار، لكن ما وراء هذه الأرقام أكثر عمقًا من ظاهرها؛ إذ أن قرابة 58% من هذه الزيادة لم تكن اقتراضًا جديدًا، بل فوائد متراكمة وخدمة دينٍ موروث من سنوات سابقة، ما يعكس حجم الإرث المالي الذي ورثته الحكومة أكثر مما يعكس سلوكها المالي الراهن.
صحيح أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت نحو 90.9%، وهي نسبة مرتفعة ومقلقة، لكن الحكومة أعلنت بوضوح هدفها الطموح بخفضها إلى 80% بحلول عام 2028، وهو مسار يتطلب انضباطًا ماليًا صارمًا ونموًا اقتصاديًا مستدامًا.
الناقد المنصف لا يبحث عن شماعة ليعلّق عليها أرقام الدين، بل ينظر إلى المنظومة برمتها، فالمشهد الاقتصادي الأردني تحكمه ثلاثة متغيرات متشابكة ،، تباطؤ النمو الاقتصادي الذي لم يتجاوز 2.5%، ارتفاع كلف التمويل العالمي التي رفعت كلفة الاقتراض، وتراكم الالتزامات السابقة التي كشفتها الحكومة بشفافية وأدرجتها ضمن حسابات الدين الواقعية، بعد أن ظلت خارج الحسابات لسنوات.
من هنا، يمكن القول إن حكومة جعفر حسان لم تخلق الأزمة، لكنها لم تهادنها أيضًا، بل واجهتها بأرقامٍ صريحة، وسعت إلى إعادة هيكلة إدارة الدين عبر سياسات مالية أكثر شفافية ومصارحة للرأي العام، فالاعتراف بحجم المديونية هو أول خطوة في طريق الإصلاح، والمصارحة بالحقيقة هي أقصر الطرق لاستعادة الثقة.
لكن النقد المشروع لا يُغفل أن هذه الحكومة – رغم رؤيتها الإصلاحية – ما زالت تتحرك في مساحةٍ ضيقةٍ جدًا بين ضغط الإيرادات ومحدودية النمو، فالإصلاح المالي الحقيقي لا يتحقق بخفض النفقات فقط، بل بإعادة إنتاج اقتصادٍ قادرٍ على توليد الدخل لا استنزافه، هنا تكمن المعادلة الأصعب: كيف نحول المديونية من عبءٍ على الموازنة إلى رافعةٍ للاستثمار والإنتاج؟
المديونية ليست خصمًا في معركة الدولة، بل سلاحٌ يحتاج إلى من يحسن استخدامه، وفي إدارة جعفر حسان، نلمح ملامح نهجٍ إداري عقلاني يحاول تحويل العجز إلى فرصة، وتثبيت القاعدة المالية قبل الانطلاق نحو الإصلاح الأوسع.
وربما يمكن القول إن ارتفاع الدين – وإن بدا مقلقًا – هو مرحلة كشفٍ مالي حقيقي أكثر من كونه أزمة مستجدة، فالمشهد المالي الذي كانت تخفيه الأرقام الجزئية صار اليوم واضحًا بكل تفاصيله، وهذا بحد ذاته إنجاز في زمنٍ كانت فيه الشفافية عملةً نادرة.
يبقى التحدي الأكبر هو أن تتحول هذه الشفافية إلى خطط إنتاج واقعية تخلق النمو وتعيد للدين وظيفته التنموية، لا أن يبقى عبئًا يثقل كاهل الدولة والمواطن، فالأردن اليوم لا يحتاج إلى حكومةٍ تعد بالأرقام، بل إلى دولةٍ تبني من خلف الأرقام.






