صدى الشعب – كتب : فيصل تايه
في كل بيت من بيوتنا ، يقف “زيت الزيتون” شامخاً على موائدنا، رمزاً للبركة والعافية، وركناً أصيلاً لا يقل أهمية عن الخبز والماء ، اذا ان هذه السلعة الغذائية المباركة ليست ترفاً غذائياً ، بل ضرورة حتمية ارتبطت بتاريخنا وموروثنا وذاكرتنا البلدية ، فكانت على الدوام وعبر تاريخ الاباء والاجداد مصدراً للخير الذي يربط الإنسان بأرضه ، لكننا وجدنا أنفسنا هذا العام أمام واقع صادم وأسعار خيالية لم تشهدها الأسواق من قبل ، اذ ان “تنكة الزيت” قفزت إلى مستويات غير معقولة، وجعلت هذا الذهب الأخضر يتحول فجأة إلى سلعة فاخرة لا تطالها يد المواطن البسيط، وكأن لقمة المواطن وحقه في غذاء يومه صارت رهينة للجشع والاحتكار .
الذرائع التي يروّج لها البعض “قلة الإنتاج وضعف الموسم” ليست سوى محاولة لتبرير هذه الطفرة السعرية الغريبة، فيما يذهب آخرون إلى الحديث عن ارتفاع كلف الإنتاج وقله توفر الايدي العامله ، فيما يؤكد الجميع ان الموسم “بالفعل” ليس “وفيرا” كما في الأعوام السابقة، لكن ما يحدث يتجاوز منطق العرض والطلب، ويدخل في نطاق الاحتكار والتحكم المتعمد بالأسعار من قبل فئة محدودة من الوسطاء وأصحاب النفوذ الاقتصادي الذين يجمعون الزيت من صغار المزارعين ثم يفرضون تسعيراتهم كيفما شاؤوا، دون حسيب أو رقيب.
اليوم، أصبح المواطن ضحية حلقة جشع مفرغة، يدفع ثمنها من لقمة عيشه وعرق جبينه، بينما يبرر البعض ارتفاع الأسعار بأسباب واهية لا تصمد أمام المنطق ولا الواقع ، فهل يعقل أن يبقى غذاء المواطن رهينة في أيدي من لا يعرفون سوى لغة الربح والاحتكار؟ ولا يجوز أن يبقى المواطن رهينة لمزاج قلة من ضعفاء النفوس الذين يتاجرون بلقمة الناس تحت شعارات واهية لا تقنع أحداً ، فقد ضاق الناس ذرعاً ، ولم تعد الأسواق تحتمل، فالحزم اليوم أصبح واجباً وطنياً لا يحتمل التأجيل، فالمواطن بحاجة إلى أن يشعر بأن الدولة موجودة وقادرة على حماية قوته وحقه في حياة كريمة.
إننا نطالب الدولة “وبصوت عال” أن تتحرك فورا وبحزم لوضع حد لهذه الفوضى، عبر رقابة صارمة تضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بقوت الناس. فزيت الزيتون عند المواطن الأردني، كما الخبز، جزء من الأمن الغذائي الوطني، والتهاون في ضبط أسعاره يهدد توازن السوق وثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
وهنا يبرز السؤال الأهم : أين دور وزارة الزراعة؟ فهي الجهة الرسمية المعنية بحماية هذا القطاع الاستراتيجي ومراقبة حركة الزيت في الأسواق، وضمان وصول منتجات المزارعين إلى المستهلك دون تدخل سماسرة ومحتكرين ، فالموسم الضعيف لا يبرر الفوضى، بل يفرض مضاعفة الرقابة والإدارة الحكيمة للحدّ من تغول التجار وتلاعبهم بالأسعار ، ومن واجب الوزارة أن تترجم مسؤوليتها إلى إجراءات عملية ملموسة، تشمل مراقبة عمليات البيع والشراء ميدانياً ، وضع تسعيرة استرشادية تراعي كلفة الإنتاج والعدالة للمستهلك والمزارع، اضافة الى تنظيم آلية التخزين والتوزيع لمنع الاستغلال، والتنسيق مع وزارة الصناعة والتجارة لضمان وفرة المعروض في السوق.
اعود الى القول وبما ان الموسم المحلي ضعيفًا فعلًا، فالحل ليس في ترك المواطن يواجه الجشع وحده، بل في فتح باب الاستيراد المنظم من دول الجوار أو من الزيت التونسي والإسباني المعروفين بجودتهما وسعرهما المقبول ، فالسوق المفتوح والمنافسة الشريفة كفيلان بكسر الاحتكار وإعادة الأسعار إلى معدلاتها الطبيعية، ويضمن وصول الزيت بأسعار معقولة لجميع البيوت، ما يحمي المواطن ويحقق العدالة الاقتصادية.
لقد آن الأوان لأن نرى قرارات فعلية لا وعوداً مؤجلة، فالقضية لم تعد اقتصادية فحسب، بل قضية عدالة اجتماعية وأمن غذائي وكرامة إنسان ، فالمواطن لم يعد يحتمل، والأسواق لا تنتظر، والدولة مطالبة اليوم بأن تظهر وجودها وفاعليتها لحماية المواطن وضبط الأسواق.
ويبقى القول إن “الذهب الأخضر” كان ولا يزال عنواناً للخير والبركة في بيوتنا، فلا تسمحوا أن يتحول إلى عبءٍ وهم جديد يضاف إلى معاناة المواطن اليومية ، فالحزم اليوم أصبح واجباً وطنياً قبل أن يفقد هذا الزيت الطاهر مكانته في قلوب وموائد أبناء الوطن.
والله وليّ التوفيق.






