صدى الشعب – سليمان أبو خرمة
لم تعد المخاطر السيبرانية مجرد حوادث تقنية عابرة، بل أصبحت اليوم معارك رقمية تُهدد شريان الحياة للدول، وتمتد آثارها إلى استقرار اقتصاداتها وأمن مؤسساتها الحيوية.
وفي ظل هذا التسارع التقني، يقف الأردن على أعتاب مرحلة جديدة من الجاهزية الرقمية، مدفوعًا برؤية استراتيجية واضحة وخطط وطنية متكاملة.
ويأتي إطلاق المركز الوطني للأمن السيبراني لسياسة الإبلاغ والاستجابة لحوادث الأمن السيبراني لعام 2025 تتويجًا لجهود وطنية متراكمة في بناء بيئة رقمية آمنة، وخطوة تؤكد عزم المملكة على تحويل التحديات التقنية إلى فرص قوة ونمو، عبر توحيد آليات التنسيق بين المؤسسات، ورفع مستوى الجاهزية للتعامل مع أي تهديد رقمي يطال قطاعات الدولة المختلفة.
تحويل التحديات إلى قوة وطنية
وبهذا الخصوص، قال الخبير في مجال التقنية والبيانات الدكتور حمزة العكاليك، إن المخاطر السيبرانية لم تعد مجرد حوادث تقنية عابرة، بل أصبحت اليوم معارك رقمية ضارية تُهدد شريان الحياة للدول، وتمتد آثارها من استقرار الاقتصادات إلى أمن المؤسسات الحيوية.
وأضاف العكاليك خلال حديثه لـ(صدى الشعب) أن الأردن يقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من الوعي الرقمي، مدفوعًا برؤية استراتيجية واضحة.
وأشار إلى أن إطلاق المركز الوطني للأمن السيبراني لسياسة الإبلاغ والاستجابة للحوادث السيبرانية لعام 2025، لا يمثل مجرد تحديث إجرائي، بل إعلان سيادي يؤكد أن المملكة قررت تحويل التحديات الرقمية إلى نقطة قوة وطنية.
وأوضح أن هذه الوثيقة ليست تنظيمية فقط، بل تُعد بوصلة وطنية لإعادة تعريف الأمن السيبراني كمسؤولية تشاركية شاملة، ودليلًا على نضج الأردن في إدارة مخاطره الرقمية.
ولفت إلى أن السياسة الجديدة تأتي امتدادًا طبيعيًا للاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني (2022–2027)، وتمثل في جوهرها قفزة نوعية نحو توحيد الجهد الوطني في مواجهة التهديدات الإلكترونية.
منظومة متكاملة لترسيخ حوكمة المخاطر والتنسيق القطاعي
وأكد العكاليك أن الأردن تجاوز مرحلة التعامل الجزئي والمنفرد مع الهجمات، وأصبح اليوم أمام منظومة وطنية متكاملة تُرسّخ حوكمة المخاطر وتفرض التنسيق القطاعي المُلزم بين مختلف المؤسسات العامة والخاصة.
وأشار إلى أن السياسة الجديدة وضعت حدًا للفراغ التشريعي في مجال التعامل مع الحوادث الرقمية، إذ تُلزم جميع الجهات، من الوزارات السيادية إلى الشركات الخاصة، بضرورة الإبلاغ عن أي حادث خلال مدد زمنية دقيقة ومحددة، موضحًا أن هذا الإلزام يحوّل الأمن السيبراني من خيار تقني إلى مسؤولية قانونية.
وبيّن أن السياسة تضع الأردن في مصاف الدول المتقدمة التي تتبنى نظم الاستجابة الموحدة، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي وسنغافورة وكندا، في تحول يعكس النضج المؤسسي في فهم طبيعة المعركة الرقمية الحديثة.
ولفت إلى أن من أهم مرتكزات القوة في السياسة الجديدة هو التحديث الجذري لآليات الإبلاغ، حيث أصبحت القنوات متعددة وذكية، تشمل البريد الإلكتروني المباشر (cert@ncsc.jo)، والمنصة الوطنية المتطورة (JOCERT)، وخطوط الاتصال المباشرة العاملة على مدار الساعة، بما يضمن تدفق المعلومات دون تأخير أو تعقيد.
تصنيف منهجي للحوادث لرفع كفاءة إدارة الموارد والاستجابة السريعة
وأضاف أن السياسة اعتمدت تصنيفًا منهجيًا للحوادث إلى أربع فئات تبدأ بـ”حرجة” وتنتهي بـ”منخفضة”، استنادًا إلى سرعة الانتشار وحجم الأثر المتوقع، الأمر الذي يمكّن المركز الوطني من إدارة الموارد بفعالية وتوجيه الاستجابة السريعة نحو القطاعات الأكثر تضررًا فور وقوع الحوادث.
وأشار إلى أن أبرز التحديات تكمن في القطاعات الصغيرة والمتوسطة التي تفتقر إلى فرق متخصصة وأدوات متقدمة، مؤكدًا أهمية الدور التكاملي للمركز الوطني للأمن السيبراني في دعم هذه المؤسسات، عبر تبني نموذج استباقي شبيه بهيئة الأمن السيبراني البريطانية (NCSC UK) من خلال تقديم أدوات رصد وإرشادات جاهزة لتحويلها من أهداف سهلة إلى جزء من منظومة الدفاع الوطني.
وأكد أن المقاربة الأردنية الجديدة تتبنى دورة حياة متكاملة للحوادث السيبرانية تتوافق مع أرقى المعايير العالمية، مثل معايير NIST الأمريكية، مشيرًا إلى أن هذه الدورة تبدأ بمرحلتي التحضير والكشف والتحليل، مرورًا بعمليات الاحتواء والاستئصال، وصولًا إلى مرحلة التعافي، وتنتهي بمرحلة “الدروس المستفادة” لتحليل كل حادث وتحسين الإجراءات المستقبلية، وهو ما يجسد جوهر المرونة الرقمية.
13 ألف حادث منخفض و2100 عالي الخطورة في عام 2024
وأوضح أن بيانات عام 2024 كشفت عن ضغط كبير في هذا المجال، حيث تم تسجيل أكثر من 13 ألف حادث منخفض الخطورة و2100 حادث عالي الخطورة، مبينًا أن السياسة الجديدة تضمن تحليلًا لحظيًا (Real-Time Analysis) يمكّن الجهات المختصة من رصد الأنماط المتكررة للهجمات والتعامل معها بشكل استباقي قبل وقوع الضرر.
وقال إن هذه السياسة لم تولد في فراغ، بل جاءت استجابة منطقية ومطلوبة لوتيرة التحول الرقمي المتسارعة في الأردن، خاصة مع التوسع في الخدمات السحابية واستخدامات الذكاء الاصطناعي، مقابل تصاعد الهجمات الموجهة مثل التصيد الإلكتروني واختراق سلاسل التوريد.
وأضاف العكاليك أن المملكة تسعى إلى مواءمة إطارها الوطني مع التوجيهات العالمية، مثل التوجيه الأوروبي NIS2، الذي يفرض معايير دقيقة ومحددة زمنياً للإبلاغ عن الحوادث، الأمر الذي يعزز الشفافية ويؤكد الجاهزية المؤسسية.
وشدد على أن الإبلاغ عن الحوادث لا يعني الإدانة أو الفشل، بل يُعد مؤشر نضج ومسؤولية قانونية، وهو المبدأ الذي تتبناه دول متقدمة مثل أستراليا واليابان، لبناء ثقافة الثقة وتبادل المعلومات الحيوية بدلًا من ثقافة إخفاء الفشل.
ولفت إلى أن التحديات الواقعية ما زالت قائمة، وتشمل ضعف البنية التحتية التقنية في القطاعات الصغيرة، ونقص الخبرات التحليلية المتخصصة للتعامل مع التهديدات المعقدة مثل الذكاء الاصطناعي الخبيث، إلى جانب التفاوت في النضج السيبراني بين القطاعين العام والخاص.
منصة وطنية للامن السيبراني لرصد وتحليل الأنماط في الوقت الحقيقي
وأوضح العكاليك أنه للتغلب على تلك التحديات، ينبغي على المركز الوطني للأمن السيبراني تبني نموذج المختبرات السيبرانية المشتركة بين القطاعات، على غرار التجربة الكورية الجنوبية (KR-CERT)، لرفع كفاءة الاستجابة الجماعية وتقليص زمن التعافي.
وأشار إلى أن نجاح السياسة مرهون بتطوير إطار تشريعي داعم، يستدعي تحديث قوانين حماية البيانات والجرائم السيبرانية لتضمين نصوص واضحة حول المسؤولية القانونية عن الهجمات العابرة للحدود الرقمية، مع تمكين المركز من تعزيز التعاون الدولي مع جهات مثل الإنتربول (Interpol) وFIRST لضمان تبادل فوري لمعلومات التهديدات.
وأضاف أن من الضروري الإسراع في إنشاء منصة وطنية للذكاء السيبراني تعتمد على تقنيات التعلم الآلي لرصد الأنماط وتحليلها في الوقت الحقيقي، موضحًا أن هذا النموذج أثبت فعاليته في دول مثل فنلندا، حيث ساهم في تقليص زمن الاستجابة بنسبة تجاوزت 60 بالمئة.
وأكد العكاليك أن التجارب الدولية أثبتت أن الأمن السيبراني ليس مجرد تقنية تُشترى، بل ثقافة مؤسسية تُبنى، مستشهدًا بتجربة إستونيا التي واجهت هجوم 2007 وأسست على إثره منظومة مرونة رقمية وطنية جمعت الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني ضمن شبكة دفاعية موحدة، مشيرًا إلى أن على الأردن السير في نهج مشابه من خلال إنشاء شبكة CERT قطاعية تربط المؤسسات لتسريع تبادل المعلومات وضمان سرعة الاستجابة.
ولفت إلى أن سياسة الإبلاغ والاستجابة لعام 2025 تمثل تحولًا استراتيجيًا في الفكر السيبراني الوطني، وتضع الأمن السيبراني كركيزة أساسية للأمن القومي والتنمية الاقتصادية، مؤكدًا أن المركز الوطني للأمن السيبراني نجح في بناء منظومة ناضجة توازن بين الحوكمة والمرونة، وبين الشفافية والمسؤولية.
وقال إن الأردن يرسخ اليوم موقعه على خارطة الدول المتقدمة في إدارة الحوادث الرقمية والاستجابة الفعالة، مشيرًا إلى أن المستقبل القريب يحمل وعدًا بأن يصبح الأردن مركزًا إقليميًا للجاهزية السيبرانية في الشرق الأوسط، ومثالًا على أن السيادة الرقمية لم تعد خيارًا مؤجلًا، بل مستقبلًا يُصنع بإرادة وطنية واعية وتخطيط استراتيجي محكم.
