صدى الشعب – كتب راكان خالد الخريشا
قبل عقود وصفت موريتانيا بأنها بلد المليون شاعر، واليوم يبدو إننا في الأردن نخطو مسرعين نحو لقب جديد بلد المليون بودكاست لم يعد الميكروفون أداة الإعلامي وحده، بل أصبح في متناول يد كل سياسي سابق، وكل نائب عابر، وكل ناشط يلهث خلف الضوء، وحتى بعض الهواة الذين وجدوا في الذكاء الاصطناعي فرصة لبناء استوديو افتراضي أنيق بكلفة زهيدة.
الساحة تغصّ بالمتحدثين، وزراء سابقون يعيدون إنتاج خطاباتهم بصوت عالٍ، ونواب يستعرضون مواقفهم أمام جمهور افتراضي، إعلاميون يطلّون يوميًا ببرامج “مباشرة”، نشطاء يثرثرون ليلًا ونهارًا الكل يتحدث، الكل يعلّق، الكل يصدر أحكامًا وفتاوى سياسية، حتى غدا الكلام سوقًا مفتوحًا بلا رقيب.
لكن ما يثير الانتباه ليس وفرة المنصات بحد ذاتها، بل تضخم ظاهرة “باعة الكلام” تصريحات “فاقعة” تطلق بمناسبة وبغير مناسبة، و”آراء نارية” تُلقى لتشعل النقاشات الرقمية أكثر مما تضيء العقول، وهنا تتحول الديمقراطية من ساحة حوار رصين إلى سوق مزادات صوتية يتفوق فيها من يصرخ أعلى لا من يفكر أعمق.
وسط هذا المشهد، يطل السؤال الأشد إيلامًا أين الصمت السياسي لقد فقدنا قيمة الصمت وكأننا نسينا أن السكوت أبلغ من الكلام وأن لحظة تفكير عميقة قد تزن أكثر من ألف تصريح مرتجل، السياسة لا تُدار بالشعارات ولا بالبودكاستات اليومية بل بالصبر، والحكمة، والقدرة على التقاط التوقيت المناسب للكلمة.
الأردن الذي يواجه تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية متشابكة، يحتاج إلى خطاب متزن يوجّه الناس ولا يشتتهم يشرح ولا يثير، يعمّق ولا يسطّح يحتاج إلى مسؤولين وسياسيين يعرفون متى يتكلمون ومتى يصمتون، لأن الصمت في لحظة معينة قد يكون رسالة أبلغ من أي بيان.
لقد تحولت الساحة إلى ما يشبه كرنفال الكلام كل واحد يريد أن يكون مذيعًا ومحللًا ومفكرًا في الوقت نفسه لكن من يتوقف ليسأل هل يستفيد الوطن من هذا الصخب، وهل يقودنا إلى حلول، أم أننا ندور في دوامة من الأصوات العالية بلا أثر حقيقي
إننا أمام زمن غريب تتراجع فيه قيمة الفعل أمام طغيان القول، وتغدو الكاميرا والميكروفون أكثر حضورًا من أي خطة إصلاح أو رؤية عملية، والنتيجة ضجيج متواصل بلا موسيقى، كلمات متطايرة بلا وزن، وأحاديث تُنسى في اللحظة التي تُقال فيها.
من هنا، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة الاعتبار لفلسفة الصمت، أن نصمت أحيانًا كي نُصغي، أن نصمت كي نفكّر، أن نصمت كي نمنح للكلمة وزنها وهيبتها فالصمت ليس غيابًا عن المشهد، بل هو جزء من المشهد حين يُمارس بوعي وحكمة.






