صدى الشعب – راكان الخريشا
يشهد الأردن تراجعًا حادًا في المنح والمساعدات الخارجية ما يفاقم الضغوط على الموازنة العامة ويزيد من حجم المديونية الحكومية، فبينما قدرت الموازنة لعام 2025 قيمة المنح بنحو 734 مليون دينار، لم يتم تحصيل سوى 29 مليون دينار خلال الأشهر السبعة الأولى، ما يسلط الضوء على فجوة كبيرة بين التقديرات والواقع هذا التراجع الذي يأتي في ظل تعليق جزء كبير من المساعدات الأمريكية يضع الحكومة أمام تحديات اقتصادية حقيقية تستدعي البحث عن بدائل محلية واستثمارات منتجة لتعويض هذا النقص بعيدًا عن رفع الضرائب أو زيادة الاقتراض.
وفي هذا السياق قال المحلل الاقتصادي، منير دية، إن الأردن يشهد منذ سنوات تراجعًا ملحوظًا في حجم المنح والمساعدات الخارجية، وهو تراجع لم يعد عابرًا أو مرتبطًا بظروف مؤقتة بل أصبح ظاهرة متكررة تتراكم آثارها عامًا بعد عام، ففي موازنة عام 2025 قدرت الحكومة قيمة المنح الخارجية بنحو 734 مليون دينار، إلا أن ما حصلت عليه المملكة فعليًا خلال الأشهر السبعة الأولى لم يتجاوز 29 مليون دينار فقط، ما يعكس فجوة ضخمة بين التقديرات والواقع.
وتابع دية التراجع هذا لم يكن مفاجئًا بالكامل، إذ أن ملامحه بدأت بالظهور منذ أعوام، لكن حدته في العام الحالي قد تكون الأكبر على الإطلاق خصوصًا أن معظم المساعدات تأتي من الولايات المتحدة الأمريكية، التي سبق أن علّقت إدارة الرئيس دونالد ترامب مساعداتها للأردن لمدة تسعين يومًا قبل أن تعود لاحقًا، واليوم مع استمرار تعليق مساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) البالغة قيمتها نحو 350 مليون دولار، يبدو أن الأردن أمام سيناريو غير مسبوق بانخفاض حجم المنح إلى مستويات قياسية.
وأضاف دية هذا الواقع يفرض انعكاسات مباشرة على الموازنة العامة للدولة، ويزيد من الضغوط على الإيرادات المحلية التي تعاني أصلًا من تباطؤ في النمو بسبب الظروف الاقتصادية العالمية والإقليمية فالعجز يتفاقم، والاقتراض بات خيارًا شبه دائم لتغطية النفقات الجارية والرأسمالية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع المديونية العامة لتبلغ 46.5 مليار دينار مع نهاية تموز الماضي، بزيادة شهرية معدلها 250 مليون دينار، هذه الأرقام وحدها كافية لدق ناقوس الخطر حول مستقبل المالية العامة في حال استمر هذا النهج دون بدائل حقيقية.
وأشار دية إذا نظرنا إلى تجارب دول أخرى واجهت ظروفًا مشابهة نجد أن بعضها استطاع تحويل التحدي إلى فرصة، فالمغرب على سبيل المثال واجه تراجعًا في الدعم الأوروبي منذ سنوات، ولكنه ركّز على استقطاب الاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة، ليصبح اليوم من أكبر منتجي الطاقة الشمسية في المنطقة، أما مصر فقد عانت من تراجع المساعدات الخليجية في بعض الفترات لكنها اتجهت نحو مشاريع البنية التحتية الكبرى وجذب الاستثمارات في محور قناة السويس، ما ساعدها على تقليل الاعتماد على الدعم الخارجي.
وأوضح دية هذه التجارب تطرح تساؤلًا جوهريًا أمام الأردن لماذا لا يتم استغلال ما يملكه من مقومات طبيعية وبشرية بنفس النهج فالمملكة تمتلك ثروات معدنية كبيرة غير مستغلة بالشكل الكافي، مثل النحاس والفوسفات والبوتاس والسيليكا والمعادن النادرة، التي يمكن أن تتحول إلى مصدر رئيسي للإيرادات إذا ما تم الاستثمار فيها عبر شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي، وكما أن موقع الأردن الجغرافي الذي يجعله بوابة للأسواق الإقليمية يشكل نقطة قوة ينبغي استثمارها لجذب المشاريع الكبرى خاصة في ظل توجه العالم نحو سلاسل توريد جديدة أكثر تنوعًا وأمانًا، هذا بالإضافة إلى قطاع تكنولوجيا المعلومات، الذي يُعد من أكثر القطاعات الواعدة بفضل كفاءات شبابية أثبتت حضورها عالميًا فشركات البرمجة الأردنية تحقق اليوم نجاحات لافتة في المنطقة لكنها بحاجة إلى بيئة تشريعية واستثمارية أكثر مرونة حتى تتوسع وتستقطب استثمارات جديدة، والزراعة بدورها يمكن أن تتحول من قطاع تقليدي إلى قطاع استراتيجي إذا جرى تحديث أدواته واعتماد التكنولوجيا الحديثة فيه فالأمن الغذائي أصبح أولوية عالمية، والأردن يمتلك مقومات تؤهله لتصدير منتجات ذات جودة عالية إلى أسواق إقليمية تعاني من نقص في الغذاء، وأما الصناعة فهي بحاجة إلى تعزيز تنافسيتها في الأسواق العالمية عبر تخفيض كلف الإنتاج وتبني سياسات تحفيزية حتى تصبح قادرة على زيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي وتوليد فرص العمل.
وبين دية إن التحدي الآخر يكمن في الاعتماد المفرط على المنح كان يُستخدم كغطاء لتأجيل بعض الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية لكن التراجع الحالي قد يشكل فرصة لإعادة التفكير في النموذج الاقتصادي برمته بحيث يعتمد على الإيرادات الذاتية من خلال الاستثمار المنتج بدلًا من الاقتراض أو فرض ضرائب جديدة على المواطنين فرفع الضرائب والرسوم لم يعد خيارًا ممكنًا في ظل الضغوط المعيشية التي يواجهها المواطن الأردني، وهو ما يعني أن على الحكومة أن تبحث عن بدائل “خارج الصندوق”، ومن بين هذه البدائل أيضًا تحسين كفاءة الإنفاق العام، ومحاربة الهدر والفساد، وتبني مبدأ الشفافية في إدارة الموارد فالمستثمرون سواء المحليون أو الأجانب يحتاجون إلى بيئة نزيهة وواضحة حتى يضخوا أموالهم في مشاريع طويلة الأمد كما أن تفعيل الشراكة الحقيقية بين القطاعين العام والخاص يمكن أن يفتح الباب أمام مشاريع تنموية كبرى في البنية التحتية والطاقة والنقل، وإضافة إلى ذلك فإن الأردن يستطيع أن يستثمر في موقعه الجيوسياسي كدولة مستقرة وسط إقليم مضطرب، ليعرض نفسه كوجهة آمنة للاستثمار ومركز إقليمي للأعمال، وهذا يتطلب سياسات تسويقية واستثمارية أكثر فاعلية على المستوى الدولي بدعم من الدبلوماسية الاقتصادية الأردنية.
أكد دية إنه في المحصلة تراجع المنح والمساعدات الخارجية ليس مجرد أزمة مالية آنية بل هو تحدٍ استراتيجي يجب التعامل معه بعقلية مختلفة، وإذا كان العام الحالي يمثل ذروة هذا التراجع فإن ذلك قد يكون أيضًا فرصة لإحداث نقلة نوعية في النهج الاقتصادي عبر الاعتماد على موارد ذاتية مستدامة، وجذب استثمارات منتجة، وتبني خطط وطنية حقيقية للنهوض بالقطاعات الواعدة عندها فقط يمكن للأردن أن يخرج من دائرة الاعتماد على المنح، ويؤسس لاقتصاد أكثر استقلالية وقدرة على مواجهة الأزمات.
