صدى الشعب – كتب المحامي المحامي محمد عيد الزعبي
الحرب لم تعد حربًا إذا اقتصرنا على الصور النمطية: دباباتٍ تقضم التراب وطائراتٍ تقطع السماء. اليوم الحرب أشبهُ بمسرحية هجينة — نصفها أعصاب وشفرات، ونصفها الآخر طائراتٌ بلا طيار تقرع أبواب المدن والصناعات معًا. المشهد الذي نراه في قلب أوروبا هذه الأيام يضع درسًا صريحًا لكل بلد صغير وكبير: الخطر مزدوج، والمقاومة تحتاج فِكرًا متعدّدَ الطوابق.
المشهد الحالي: لماذا «سيبراني — مسيّر»؟
التهديد يتكوّن من عنصرين مترابطين: هجمات سيبرانية تعطل الشبكات والأنظمة، وموجات من الطائرات المسيّرة (loitering munitions / swarms) تستغل تلك الفجوات بضربات دقيقة أو شبه عشوائية. النتيجة: إنزال ضرر مادي كبير مع تشويش معلوماتي يعرقل الاستجابة ويزيد الفوضى. المشاهد الأخيرة من ساحات القتال تُظهر أن الطائرات الصغيرة أصبحت الأداة الأكثر كفاءة لإحداث أذى اقتصادي وبشري بميزانية رخيصة نسبيًا.
كيف تتآزر الهجمات السيبرانية مع تشغيل الـUAVs؟
المنطق بسيط وبارد: تعطّل أنظمة الإنذار أو تضليل وسائل الملاحة (GPS spoofing) —> يُفتح ممر لأسطول من الطائرات الصغيرة —> تُنفّذ موجة من الضربات أو تُنقل أجهزة لزرع برمجيات خبيثة/التقاط اتصالات —> خسائر مضاعفة. ليس خيالًا؛ تقارير واجهة الملاحة وأدلة الحقل تُثبت ارتفاع حوادث تزوير إشارات الملاحة والتشويش على الاتصالات. هذا يجعل الاعتماد على نظام واحد (مثل GPS أو شبكة خلوية) مخاطرة قاتلة.
نقاط الضعف التي يجب أن نتركها بلا شفقة
- الاعتماد غير المتوازن على GNSS/GPS كمصدر وحيد للملاحة.
- قنوات التحكم إلى الطائرات (C2) غير المشفّرة أو التي تفتقد لمصادقة صارمة.
- أجهزة ومكوّنات من سلاسل توريد تجارية دون تدقيق أمني — التحديثات غير الموقعة بوابة ذهبية للزرع الخلفي.
- غياب طبقات دفاع متعدّدة: رادار يكشف — تشويش/إعاقة ذكية — اعتراض فيزيائي.
هذه الثغرات ليست نظرية؛ هي التي يُستثمر فيها الخصم لفتح باب الخسارة أمامنا.
ماذا يعني هذا لبلدٍ مثل الأردن؟
بلدنا قد لا يمتلك مصانع طائرات مسيّرة بحجم صناعات دول كبرى، لكنه ليس محصّنًا من استهداف بنيته التحتية أو منشآته الحيوية. موجة من الطائرات المتزامنة يمكن أن تُرهق منظومة الدفاع، وهجوم سيبراني بسيط قد يجعل أنظمة الإنذار ضعيفة أو غير فعّالة. لذلك، الخطر واقعي وقابل للحدوث — وإذا لم نستعد الآن فإن التكلفة ستكون باهظة جدًا ومعها خسائر بشرية واقتصادية.
خطوات عملية — ليس سياسة للتجميل بل خطة قابلة للتنفيذ
(أقولها بصراحة وبلا رتوش: افعلوا هذه الأشياء بالأولوية، ولا تنتظروا أموالًا سحرية من أحد.)
- تأمين قنوات التحكم (C2): تشفير قوي، مصادقة متعددة العوامل، وتوقيع رقمي لإتمام أي تحديث للـfirmware.
- ملاحة احتياطية: دمج أنظمة INS و視ية (vision-based navigation) مع كشف التزوير GNSS.
- دفاع طبقي ومرن: رادارات قصيرة المدى، منظومات اعتراض خفيفة (interceptor drones)، وأنظمة تشويش وتضليل ذكية.
- تقييد الشبكات عند الحاجة: آليات قانونية وتقنية للحدّ الانتقائي من خدمات المحمول في حالات الطوارئ لتقليل قدرات تنسيق العدو عبر قنوات مدنية — مع ضمان حماية حقوق المواطنين وخدمات الطوارئ.
- حوكمة التوريد: فرض شروط أمنية على الموردين، توقيع اتفاقيات شفافية، وفحوص أمنية دورية للمكونات.
- شبكة كشف استباقية: IDS مخصص لمحطات إدارة الطائرات، وتحليل سلوكي للطائرات لاكتشاف شذوذ قبل الكارثة.
- تدريب مدني وعسكري مشترك: تمارين مشتركة لاختبار تقليص الخدمات، اعتراض الطائرات، واستمرارية الأعمال.
الاعتبارات القانونية والأخلاقية
لا يمكن أن نضحّي بحقوق المواطنين في اسم الأمن. أي خطة طوارئ يجب أن تكون محددة زمنياً، قابلة للرقابة القضائية، ومقيدة قانونيًا لتجنب الاستبداد أو إساءة الاستخدام. من جهةٍ أخرى، لا نستطيع أن ننسى أن بعض تقنيات الطائرات المسيّرة تُصدّر بسهولة؛ فهناك واجب دولي لفرض ضوابط تصدير صارمة على المكوّنات الحساسة. بلدان منطقتنا التي تتبنى سياسات تصدير ساذجة قد تساهم دون قصدٍ في تمكين جهات مسلحة من تحويل أدوات مدنية إلى آلالات قتل.
خاتمة — لا نبالغ، لكن نعرف قَدْر الخطر
التهديد حقيقي، مثله مثل أي تهديد متطور في تاريخ الحروب: من بإمكانه التكيف أولًا سيكسب ميزة. ليست مسألة توجيه أصابع الاتهام بل استثمار ذكي في قدراتنا الدفاعية الرقمية والفيزيائية مع حماية الحقوق. إن تجاهل البُعد السيبراني في مواجهة موجات الطائرات المسيّرة يعني الاستسلام فعليًا لمعادلة خسارة باهظة. باختصار: لن نخسر لأننا خائفون، بل سنخسر إن ابتعدنا عن التخطيط والصدّ والوقاية.






