صدى الشعب – كتب: د. عَايِشُ النَّوَايِسَةُ، خَبِيرٌ وَمُسْتَشَارٌ تَرْبَوِيٌّ
تُعَدُّ الْكُتُبُ الصَّوْتِيَّةُ تَطَوُّرًا هَامًّا فِي مَجَالِ تَنويعِ أَشْكَالِ الْقِرَاءَةِ، مِنْ خِلَالِ تَوْظِيفِ التِّقْنِيَّاتِ الْحَدِيثَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي إِتَاحَةِ الِاسْتِمَاعِ السَّهْلِ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ مُحَدَّدٍ. وَهَذَا يُسْهِمُ بِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ فِي إِيجَادِ حَلٍّ مَنْطِقِيٍّ لِمَنْ يُعَانُونَ مِنْ ضِيقِ الْوَقْتِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَخْصِيصِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِلْقِرَاءَةِ، إِذْ يُمْكِنُ الِاسْتِمَاعُ إِلَيْهَا فِي السَّيَّارَةِ أَوْ أَثْنَاءَ مُمارَسَةِ الْأَعْمَالِ الْمَنْزِلِيَّةِ أَوِ الرِّيَاضَةِ، بِطَرِيقَةٍ سَهْلَةٍ وَمُبَسَّطَةٍ وَمُتَاحَةٍ لِلْجَمِيعِ.
تَعْتَمِدُ الْكُتُبُ الصَّوْتِيَّةُ عَلَى الْحَوَاسِّ السَّمْعِيَّةِ أَكْثَرَ مِنَ الْبَصَرِيَّةِ، مِمَّا يُضِيفُ بُعْدًا عَاطِفِيًّا بِفَضْلِ أَدَاءِ الرَّاوِي وَنَبْرَةِ صَوْتِهِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُرَافِقَةِ، وَهُوَ مَا يَتْرُكُ أَثَرًا إِيجَابِيًّا لَدَى الْمُسْتَمِعِ. وَمَعَ ذَلِكَ، تَبْقَى الْقِرَاءَةُ التَّقْلِيدِيَّةُ أَكْثَرَ تَرْكِيزًا، إِذْ تُسَاعِدُ عَلَى التَّأَمُّلِ وَتَمْنَحُ الْقَارِئَ وَقْتًا كَافِيًا لِتَحْدِيدِ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا أَكْثَرَ صَفَاءً ذِهْنِيًّا، مِمَّا يُشَجِّعُ عَلَى التَّفْكِيرِ النَّقْدِيِّ وَيَتْرُكُ انْطِبَاعًا أَعْمَقَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ وَحْدَهُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُتُبَ الصَّوْتِيَّةَ قَدَّمَتْ حُلُولًا لِمَنْ فَقَدُوا شَغَفَ الْقِرَاءَةِ أَوْ شَغَلَتْهُمُ الْحَيَاةُ عَنْ زِيَارَةِ الْمَكْتَبَاتِ وَالْمُطَالَعَةِ، إِذْ جَعَلَتِ الْقِرَاءَةَ أَقَلَّ عِبْئًا عَلَى الْقَارِئِ. كَمَا أَنَّ تَوْظِيفَ الصَّوْتِ بِشَكْلٍ مُتَنَوِّعٍ مَعَ الْمُوسِيقَى يَجْعَلُ التَّجْرِبَةَ أَكْثَرَ إِثَارَةً وَتَشْوِيقًا، وَيُعِيدُ شَغَفَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ دَمْجِهَا مَعَ أَنْشِطَةِ الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ كَالرِّيَاضَةِ أَوِ الْأَعْمَالِ الْمَنْزِلِيَّةِ أَوْ قِيَادَةِ السَّيَّارَةِ. وَهَذَا بِدَوْرِهِ يُمَهِّدُ لِلْعَوْدَةِ إِلَى الْقِرَاءَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، بِمَا تُمَثِّلُهُ مِنِ ارْتِبَاطٍ أَصِيلٍ مَعَ أُمَّهَاتِ الْكُتُبِ وَالْمَقَالَاتِ.
وَيَتَضِحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكُتُبَ الصَّوْتِيَّةَ لَيْسَتْ بَدِيلًا عَنِ الْقِرَاءَةِ النَّصِّيَّةِ، بَلْ مُكَمِّلَةٌ لَهَا، فَرَضَتْهَا ظُرُوفُ الْحَيَاةِ وَالتَّطَوُّرُ التِّقْنِيُّ وَضِيقُ الْوَقْتِ لَدَى الْأَفْرَادِ. وَمَعَ ذَلِكَ، تَظَلُّ الْقِرَاءَةُ النَّصِّيَّةُ أَعْمَقَ وَأَفْضَلَ فِي إِتَاحَةِ الْفُرْصَةِ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّوَقُّفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فِي حِينَ أَنَّ الْكُتُبَ الصَّوْتِيَّةَ تَعْتَمِدُ عَلَى الذَّاكِرَةِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَتَأَثَّرُ بِعَوَامِلِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْعُمْرِ، إِذْ إِنَّ الذَّاكِرَةَ قَصِيرَةُ الْمَدَى لَا تَنْقُلُ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ إِلَى الذَّاكِرَةِ طَوِيلَةِ الْمَدَى، مِمَّا قَدْ يُؤَثِّرُ فِي الْمُعَالَجَةِ الْكَامِلَةِ لِلْنُّصُوصِ الْمَسْمُوعَةِ.
وَمِنَ الْفُرُوقِ الْأُخْرَى بَيْنَ الْقِرَاءَةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْقِرَاءَةِ النَّصِّيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، أَنَّ الْأُولَى تَزِيدُ مِنْ مُعَدَّلِ اسْتِهْلَاكِ الْمَعْرِفَةِ بِفَضْلِ إِتَاحَةِ الِاسْتِمَاعِ لِعَدَدٍ أَكْبَرَ مِنَ الْكُتُبِ خِلَالَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ، لَكِنْ عَلَى حِسَابِ فَهْمِ الْمَعْلُومَاتِ وَتَحْلِيلِهَا وَاسْتِيعَابِهَا نَقْدِيًّا.
وَلِذَلِكَ نُلَاحِظُ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنَ الْكُتُبِ الصَّوْتِيَّةِ الْيَوْمَ هُمُ الْأَشْخَاصُ كَثِيرُو السَّفَرِ وَالْتَّنَقُّلِ، وَذَوُو الإِعَاقَةِ الْبَصَرِيَّةِ، وَالطُّلَّابُ، وَالْعَامِلُونَ الَّذِينَ يُعَانُونَ مِنْ ضِيقِ الْوَقْتِ، فَضْلًا عَنْ الْأَطْفَالِ وَالْمُعَلِّمَاتِ فِي رِيَاضِ الْأَطْفَالِ وَالْمَرَاحِلِ الْاِبْتِدَائِيَّةِ الْمُبَكِّرَةِ، إِذْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ وَتُنَاسِبُ احْتِيَاجَاتِهِمُ النَّمَائِيَّةِ.
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ أُسْلُوبَ الرَّاوِي فِي عَرْضِ النَّصِّ وَطَرِيقَتَهُ فِي الْأَدَاءِ يَتَحَكَّمَانِ بِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ فِي مَدَى تَفَاعُلِ الْمُسْتَمِعِ مَعَهُ، حَيْثُ يَسْعَى الرُّوَاةُ إِلَى تَنويعِ أَسَالِيبِهِمْ لِتُنَاسِبَ جَمِيعَ الْفِئَاتِ الْعُمُرِيَّةِ. وَيُعَدُّ الرَّاوِي حَلْقَةَ الْوَصْلِ بَيْنَ الْكَاتِبِ وَالْجُمْهُورِ الْمُسْتَهْدَفِ، وَأَدَاؤُهُ يُؤَثِّرُ مُبَاشَرَةً فِي اسْتِمْتَاعِ الْمُتَلَقِّي وَفَهْمِهِ لِلْنَّصِّ.
وَمِنْ أَبْرَزِ مَزَايَا الْكُتُبِ الصَّوْتِيَّةِ أَنَّهَا أَعَادَتْ تَعْرِيفَ الْقِرَاءَةِ فِي زَمَنٍ تَرَاجَعَتْ فِيهِ بِسَبَبِ مُشَاغِلِ الْحَيَاةِ وَتَأْثِيرِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، الَّتِي أَسْهَمَتْ فِي إِضْعَافِ الْقِرَاءَةِ النَّصِّيَّةِ. وَهَكَذَا وَسَّعَتِ الْكُتُبُ الصَّوْتِيَّةُ مَفْهُومَ الْقِرَاءَةِ، وَاخْتَصَرَتِ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَحَتَّى الْكِتَابَ نَفْسَهُ، بِمَا يُوَاكِبُ التَّطَوُّرَ التِّقْنِيَّ وَالرَّقْمِيَّ، وَيُقَدِّمُ النُّصُوصَ الْكِلَاسِيكِيَّةَ بِأُسْلُوبٍ أَكْثَرَ حَيَوِيَّةً وَجَاذِبِيَّةً. وَقَدْ سَاعَدَ ذَلِكَ عَلَى كَسْرِ الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمُقْتَنَيَاتِ النَّصِّيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجُمْهُورِ الْمُعَاصِرِ.
مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَن تُسْهِمَ الْكُتُبُ الصَّوْتِيَّةُ مُسْتَقْبَلًا فِي تَعْزِيزِ الثَّقَافَةِ الْعَامَّةِ وَإِعَادَةِ الْجُمْهُورِ إِلَى الْقِرَاءَةِ بِطَرِيقَةٍ تَتَلَاءَمُ مَعَ الْعَصْرِ، عَبْرَ الدَّمْجِ بَيْنَ الْاِسْتِمَاعِ وَالْعَمَلِ دُونَ التَّأثِيرِ فِي الإِنْتَاجِيَّةِ، وَهُوَ مَا يُخْلِقُ بِيئَةً ثَقَافِيَّةً تَرْبِطُ بَيْنَ الأَصَالَةِ وَالْمُعَاصَرَةِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، مَا زَالَتْ هُنَاكَ تَحَدِّيَاتٌ أَمَامَ انْتِشَارِ الْقِرَاءَةِ السَّمْعِيَّةِ، مِثْلَ غِيَابِ الإِنْتَاجِ الْاحْتِرَافِيِّ، وَنَقْصِ الرُّوَاةِ، وَارْتِفَاعِ التَّكَالِيفِ الْمَادِّيَّةِ، وَضَعْفِ التَّشْجِيعِ وَالتَّنْوِيرِ الثَّقَافِيِّ، وَعَدَمِ تَبَنِّي هَذَا النَّمَطِ فِي الْمُؤَسَّسَاتِ التَّرْبَوِيَّةِ. لَكِنْ إِذَا جَرَى التَّعَامُلُ مَعَ هَذِهِ التَّحَدِّيَاتِ، وَإِدْمَاجُ الْكُتُبِ الصَّوْتِيَّةِ فِي عَمَلِيَّاتِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَإِنَّهَا سَتَكُونُ مَدْخَلًا مُهِمًّا لِغَرْسِ حُبِّ الْقِرَاءَةِ وَتَذَوُّقِ الْأَدَبِ مُنْذُ الصِّغَرِ، وَنَشْرِ هَذَا النَّمَطِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ فِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ.






