صدى الشعب – راكان الخريشا
أصدر قاضي تنفيذ محكمة جنوب عمان قراراً سجل ما يشبه سابقة قضائية بتطبيق قانون التنفيذ الأردني المعدل، الذي دخل حيز النفاذ فيما يتعلق بمواد حبس المدين في منتصف العام الحالي، حيث قضى القرار بحبس مدين وكفيله لمدة ستون يوماً. وقد سبب القاضي قراره بأن الدين الذي مقداره 550 ألف دينار مثبت بإقرار دين محرر أمام كاتب العدل، وهو ما يعد سنداً تنفيذياً لا يندرج ضمن حالات عدم جواز حبس المدين وفق المادة 22/1/هـ من قانون التنفيذ المعدل. هذا القرار كأول تطبيق عملي فتح الباب للنقاش القانوني حول مدى انسجامه مع روح القانون، الذي يهدف في أساسه إلى تقليص حبس المدينين.
التقت “صدى الشعب” بالمحامية هبة أبو وردة، لمناقشة الأبعاد القانونية والاجتماعية لهذا القرار، وتوضيح المخاطر والتحديات التي قد تواجه المدينين والدائنين على حد سواء، بالإضافة إلى قراءة دقيقة لسندات الدين التنفيذية والإجراءات القانونية التي توازن بين حق التحصيل وحماية الحرية الشخصية للمدين.
قالت ابو وردة إن إعتماد الإقرار بالدين الموثق أمام كاتب العدل كأساس لحبس المدين وكفيله هو تفسير صحيح متوافق مع حرفية نصوص قانون التنفيذ المعدل كونها جاءت تماشيا مع إلتزام الأردن دوليا بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يحظر حبس لمجرد التعثر بأداء إلتزام ناشئ عن علاقة تعاقدية وبالتالي فإن الإقرار كتصرف انفرادي هو مصدر إلتزام منفصل تماما عن العقود وغير مشمولة بحظر الحبس إلا أن هذه السابقة قد تترك أبعاد قانونيا عملية من شأنها إعادة السجون للاكتظاظ بالنزلاء على إثر الإلتزامات المالية لكن هذه المرة بطريقة مقنعة إذا لجأ الدائنين لاحقا إلى اشتراط إقتران الالتزامات التعاقدية بالإقرار الموثق من قبل المدين الذي قد يلجأ لتوقيع دون أن يدرك أبعاده القانونية أو بسبب اضطراره لإبرام العلاقة العقدية مما قد يجعله يغير طبيعة التزامه من تعاقدي محمي إلى التزام انفرادي نافذ يجره إلى مراكز الإصلاح والتأهيل مما قد يضع الأردن أمام أسئلة حول جديتها بالالتزام الدولي وعدم ترك الثغرات للالتفاف حول المدين وحبسه بموجب القانون لكن تحت تكييف آخر علاوة على أنها تعيد الآثار الإجتماعية التي حاول المشرع الأردني تفاديها من حبس المدين.
وأضافت ابو وردة هذا النوع من القرارات من حيث الأثر العملي يمكن أن يحدث تحول ملحوظ في توجه الدائنين مستقبلا سواء بالإتجاه نحو الميل إلى تعزيز الديون الناشئة عن التزامات تعاقدية بإقرارات موثقة بازدواجية تثبيت الديون عبر العقود والإقرارات جنبا إلى جنب أو الإكتفاء بها بحد ذاتها كونها قادرة على إختصار الطريق إلى دائرة التنفيذ وضمان الحصول على قرار بحبس المدين مما قد يحول الإقرار من وسيلة إثبات قانونية إلى أداة ضمان تنزع الدرع القانوني الحامي عن المدين وينقل المخاطر كاملة على عاتق المدين مما سيخلق بيئة غير متوازنة يصبح فيها المدين مقيد بالحبس بموجب توقيعه على الإقرار.
واشارت أبو وردة الإلتزام الدولي على الأردني كطرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي ينص بوضوح على عدم جواز حبس أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بإلتزام تعاقدي كنص مطلق وصريح يؤكد أن التعثر المالي بحذ ذاته لا يشكل مسوغا للحرمان من الحرية وهذا الإلتزام أصبح له قوة القانون ويسمو على التشريع الوطني عند التعارض بعد نشر العهد في الجريدة الرسمية مما جعل المشرع يعدل قانون التنفيذ بما يتماشى مع هذا الإلتزام فقيد الحبس ووسع دائرة حماية الحق بالحرية مع إبقاء بعض الإستثناءات السابقة القضائية الأخيرة جاءت متوافقة وغير متقاطعة مع حرفية النص إلا أنها تترك تقاطع جوهري حاد مع روح النص وكأنها فتحت أنظار الدائنين على وسيلة التفاف حول الغاية التي بني عليها التعديل مما ينذر بشكل خطير إلى إمكانية تحول الالتزام الدولي والقانون الوطني المعدل من قاعدة آمرة إلى مجرد إلى مجرد مظهر شكلي حيث يبقى الحبس قائم لكن بغطاء قانوني مختلف وهذا قد يضعف مصداقية المنظومة الوطنية أمام الهيئات الدولية خصوصا أن فلسفة العهد الدولي ترتكز على اعتبار الحرية الشخصية أسمى من الالتزامات المدنية.
ونوهت ابو وردة إن تحقيق التوازن بين القوة التنفيذية الصلبة للسند الموثق وبين روح التشريع التي أدت إلى الحد من الحبس المدني هو قلب الإشكالية وتقتضي التدخل التشريع أو على الأقل إصدار قرارات قضائية تفسيرية توضح أن الإقرار الموثق أمام كاتب العدل لا يؤدي تلقائيا إلى الحب إنما يخضع لذات الضوابط التي يخضع لها الإلتزامات التعاقدية إذا كان مصدرها من الأساس تعاقدي أي أن السند يحتفظ بقوته التنفيذية بإستثناء الحبس إلا إذا كان مصدر الالتزام تصرف انفرادي من الأساس وهذا ما يتطلب وجود صيغة إقرار معينة لدى كاتب العدل ليزيل أي لبس بشأن مصدر الإلتزام.
وأكدت ابو وردة إن الإقرار من حيث البنية القانونية هو تصرف انفرادي لأنه ينشأ بإرادة المقر وحده دون حاجة إلى قبول الطرف الآخر لكن تكييفه الأدق يجب أن يبحث به بحسب زاوية النظر حيث أنه من حيث الجوهر الموضوعي الإقرار لا ينشأ من فراغ إما تصرف إنفرادي بحت بإرادة المدين وحده وإما يستند عادة إلى علاقة تعاقدية سابقة هنا يكون الإقرار مجرد وسيلة إثبات لتلك العلاقة التعاقدية أي أنه يعكس وجود التزام تعاقدي قائم بالفعل ويحوله إلى سند رسمي موثق لذلك على الرغم من أن الإقرار هو تصرف انفرادي ذو أثر تنفيذي ولن تتغير بنيته القانونية كمصدر إلتزام انفرادي إلا أن استناده على أساس التزام تعاقدي سابق يجب أن يحسم النزاع عن البت في قرار الحبس
وأشارت ابو وردة إذا توسع العمل بالنهج الذي يجيز الحبس استنادا إلى الإقرارات الموثقة أمام كاتب العدل فإن المخاطر ستكون مزدوجة اجتماعية و قانونية من الناحية الاجتماعية قد يفقد جزء من الأثر الإنساني على الإصلاح التشريعي الذي يتجه نحو حماية المتعثرين فإذا توسع باب الإقرارات الموثقة فقد ينهار هذا البعد الإجتماعي علاوة عن زيادة الفجوة بين الدائن والمدين حيث يصبح المدين في موقع أضعف بكثير إذا ما اتجه الدائن إلى إجباره على توقيع إقرار موثق كشرط أساسي لإبرام العقود فيتحول القلم إلى أداة إذعان تضعه تحت التهديد بالسجن ومن ثم نعود إلى الآثار الأسرية والإقتصادية السلبية التي حاول القانون المعدل تجنبها فحبس المتعثر لا يضر به وحده بل بأسرته التي قد تفقد معيلها مما يفاقم الفقر والتفكك الأسري وهذا يعاكس فلسفة التشريع التي أرادت التخفيف من الأثر الاجتماعي الكارثي للحبس المدني وأخيرا أعتقد أنه من الممكن أن يؤدي إلى ترسيخ ثقافة الخوف بدل الثقة فالمجتمع المالي سيبنى على منطق العقوبة لا الضمانات الإنتاجية مما قد يضعف روح المبادرة الاقتصادية خصوصا لدى الفئات المتوسطة والضعيفة، بالرجوع إلى المخاطر القانونية فهذا الإلتفاف على التشريع يؤدي إلى توسيع العمل بالإقرارات يحولها إلى ثغرة يفرغ عبرها قانون التنفيذ المعدل من مقصده الأساسي وهو الحد من الحبس المدني بالإضافة إلى إضعاف حماية المدين المتعثر فالدرع الذي منحه إياه القانون قد ينزع بيده وهو لا يدرك مما يحوله إلى فراغ قانوني يستغله الدائنون علاوة على بعض المخاطر على مبدأ التوازن العقدي فالأصل أن العقود يجب أن تحقق نوعا من التوازن بين الطرفين لكن إضافة الإقرار كسند تنفيذي قد يخل بهذا التوازن ويجعل العلاقة أشبه بعقد إذعان مقنع وصولا إلى التصادم مع الالتزامات الدولية كما ذكرنا فهذا التوسع في الإقرارات الموثقة يعيد إنتاج الحبس بشكل قد يعتبر تحايلا على هذا الالتزام ويضعف المصداقية الدولية للدولة.
وأوضحت ابو وردة إن الدور المنتظر من الفقه والاجتهاد القضائي لمحكمة التمييز في هذه المسألة بالغ الأهمية لأنه هو الذي سيحسم وجهة القانون بين أن يبقى درعا يحمي المدين المعسر أو أن يتحول إلى سيف مصادق عليه بيد الدائن ويمكن تفصيل هذا الدور في محاور فعلى محكمة التمييز أن تحدد بوضوح هل الإقرار الموثق أمام كاتب العدل يعامل كتصرف انفرادي مستقل يجيز الحبس أم مجرد وسيلة إثبات لعلاقة تعاقدية يجب أن تخضع لنفس الضوابط التي فرضها المشرع على الالتزامات التعاقدية هذا التكييف هو البوابة الأولى لتحديد مدى مشروعية الحبس في هذه الحالة كما من الممكن أن ترسخ مبدأ التفسير من النصوص فالمحكمة مطالبة بأن لا تقف عند ظاهر النصوص فقط إنما أن تفسرها وفق الغاية التي أرادها المشرع عند تعديل قانون التنفيذ وهو حماية المدين المعسر والانسجام مع التزامات الأردن الدولية أي أن الغاية الإنسانية والاجتماعية يجب أن تتقدم على القراءة الحرفية الجامدة علاوة على أنه يجب أن بقي العلاقة بين الدائن والمدين ضمن ميزان العدالة وألا يسمح بأن يتحول الإقرار إلى أداة إذعان يستعملها الدائنون لإفراغ القانون المعدل من فلسفته وهنا يظهر دور الفقه والاجتهاد في اعتبار الإقرار وسيلة إثبات قوية لكنه لا يلغي الحماية التشريعية للمدين.
واختتمت ابو وردة إن النصوص الحالية في قانون التنفيذ المعدل تمثل خطوة إصلاحية متقدمة لكنها من زاوية تحليلية ليست كافية وحدها لضمان منع الالتفاف على فلسفة المشرع لعدة أسباب أهمها قوة السند الموثق كسيف مشرع فقد بقي محتفظا بقوته كسند تنفيذي مما قد يجعله نافذة خلفية لإعادة إنتاج الحبس المدني ولو بشكل غير مباشر فلا يوجد نص يميز بوضوح بين الإقرار كتصرف انفرادي وبين الالتزامات التعاقدية التي أراد الدائن حمايتها مما يترك مساحة للاجتهادات التي قد تفرغ التعديل من فلسفته لذلك يجب أن يكون هناك أحكام تفسيرية من محكمة التمييز من جهة أخرى ينبغي العمل على رفع الوعي القانوني فيما يتعلق بتنظيم الإقرار أمام كاتب العدل يكون المدين على علم أنه يخلع الحماية عن نفسه بيده وحين إن أراد أن يتجه هذا الإتجاه فهو عن كامل العلم والإرادة بعيدا عن الوقوع بتبعات لا يدرك مخاطرها.






