تفاخر الحاجة آمنة البالغة من العمر 92 عاما بالعدد الكبير، من قوارير عطر “بنت السودان” الذي احتوته حقيبة تجهيزات زواجها، لكنها كغيرها من ملايين السودانيات اللائي عشقن هذا العطر لم تكن تدري حينها أنه ينتج في معمل يهودي في قلب الخرطوم، ثم أصبح لعشرات السنين جزءا من التراث السوداني.
منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى موجة هجرتهم العكسية إلى إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة، بعد عمليات التأميم الواسعة التي طالت ممتلكاتهم في مطلع السبعينيات القرن الماضي، وضع اليهود بصمتهم على كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في السودان، واندمجوا في بوتقة من التعايش مع السكان الأصليين.
لكن الخرطوم نفسها التي كانت العاصمة الأكثر دفئا لليهود هي التي استضافت مؤتمر اللاءات الثلاث الشهير عام 1967، وبعدها بـ4 سنوات أممت ممتلكات اليهود، مما أجبر المئات منهم على الهجرة بحثا عن حضن جديد، تاركين وراءهم عائلات ارتبط اسمها بالصناعة والتجارة بل وحتى الفن، كحالة “عزيزة” إحدى حسناوات عائلة منديل يهودية الأصل، التي نظمت فيها أغنية “ظبية المسالمة”، وهي واحدة من أشهر وأروع أغنيات الفن السوداني.
واقع جديد
ما بين ماضي مختلط المشاعر، والتطورات التي أعقبت مؤتمر اللاءات الثلاث، تغيرت الخارطة الجيوسياسية في السودان كثيرا، وحدثت تحولات ثقافية وفكرية خلقت جدلا متواصلا حول النظرة للقضية الفلسطينية والوجود الإسرائيلي، وهو ما يعبر عنه الباحث وأستاذ التاريخ في جامعة البحر الأحمر محمد مصطفى بالقول إن “ارتباط اليهود بالسودان يعود إلى ما قبل عام 60 من الميلاد، حيث عرفت مملكة مروي أول وزير يهودي للكنداكة التي حكمت البلاد في ذلك الوقت، واستمرت الهجرات اليهودية بعد ذلك بشكل متقطع إلى أن جاءت الهجرات المنظمة في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي أوجدت روابط لا زالت ممتدة حتى الآن وتبرز بشكل ظاهر في الأسر الموجودة حاليا في بعض مناطق أم درمان والخرطوم والأبيض ومدن أخرى”.
ويشير مصطفى إلى أن “الجدل الحالي المتعلق بالسلام مع إسرائيل لا ينفصل كثيرا عن البعد التاريخي للتأثير اليهودي على الحياة في السودان، سواء كان سلبا أم إيجابا، لكن حسمه يعتمد إلى حد كبير على المتغيرات الحالية”.