صدى الشعب – كتب راكان خالد الخريشا
في خطوة وُصفت بأنها الأخطر منذ اندلاع الحرب، خرج «الكابنيت» الإسرائيلي، بقرار احتلال قطاع غزة بالكامل بعد اجتماع ماراثوني استمر عشر ساعات، اتسم بالتوتر والانقسام الحاد بين القيادة السياسية والعسكرية القرار الذي جاء بدفع مباشر من بنيامين نتنياهو، وبدعم من تيارات اليمين المتطرف تجاهل بشكل واضح كل التحذيرات المتعلقة بالمحتجزين الإسرائيليين، وحياة الجنود والمخاطر الميدانية، بل وحتى التداعيات السياسية على المفاوضات الجارية وعلاقات إسرائيل الخارجية، ما جرى لم يكن مجرد حسم لخيار عسكري، بل كان انعكاسًا لصراع أعمق على السلطة والنفوذ داخل إسرائيل، حيث بدا نتنياهو وكأنه يقاتل على جبهتين، جبهة غزة، وجبهة داخلية لا تقل شراسة يسعى عبرها لتثبيت أركان حكمه المهدد بالانهيار تحت ضغط الاحتجاجات والتحقيقات والانتقادات المتصاعدة.
نتنياهو الذي يواجه أزمات سياسية وقضائية خانقة، قرأ الميدان بعين السياسي المحاصر أكثر مما قرأه بعين القائد العسكري، فوجد في التصعيد الشامل فرصة لإعادة صياغة المشهد الداخلي، وحشد قاعدته الانتخابية خلف خطاب الطوارئ والأمن القومي أملاً في إطالة عمر حكومته وإسكات الأصوات المطالبة برحيله، هذه الاستراتيجية ليست جديدة في تاريخ إسرائيل، إذ لطالما كان تصعيد الحروب وسيلة للهروب من أزمات الداخل، لكن خصوصية اللحظة الراهنة تكمن في أن المخاطر قد تتجاوز قدرة المؤسسة الإسرائيلية على التحكم بمسار الأحداث.
القيادة العسكرية، وأن أبدت معارضة واضحة، لم تتمكن من فرض رؤيتها، فقرار الاحتلال الكامل يعني بالنسبة لها الانخراط في حرب استنزاف معقدة داخل بيئة حضرية مكتظة، ضد خصم يمتلك إرادة القتال ويعرف جغرافيا الميدان جيدًا، وهو ما يذكرهم بتجربة جنوب لبنان وما خلفته من جراح استراتيجية وسياسية، ومع ذلك وجدت المؤسسة العسكرية نفسها في نهاية المطاف منساقَة وراء القرار السياسي في مشهد يعكس هيمنة التيار اليميني المتشدد على القرار الإسرائيلي حتى على حساب التقديرات الميدانية.
على الصعيد الدولي، من المتوقع أن يعمق القرار عزلة إسرائيل ويضعف موقفها أمام الحلفاء، خاصة مع تصاعد الانتقادات للعمليات العسكرية في غزة وارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، وهو ما قد يؤدي إلى شرخ في جبهة الدعم الغربية، حتى مع استمرار المظلة الأمريكية، إذ أن الكلفة الإنسانية والسياسية لهذا الاحتلال قد تصبح عبئًا يصعب تبريره أمام الرأي العام العالمي كما أن تجاهل ملف الرهائن قد يتحول إلى قنبلة داخلية موقوتة، خصوصًا مع تصاعد غضب عائلاتهم واتهامهم الحكومة بالتضحية بأبنائهم لتحقيق أهداف سياسية ضيقة.
ويبدو أن الهدف الحقيقي من هذا القرار لا يرتبط فقط بالسيطرة على غزة، بل بالسيطرة على إيقاع المشهد السياسي الإسرائيلي برمته، نتنياهو يراهن على أن الحسم الشامل سيكتب له مجدًا شخصيًا يخلده في نظر أنصاره، أو على الأقل يمنحه مهلة زمنية ينجو بها من السقوط، ولكن التاريخ يُظهر أن الاحتلال لا يعني النصر، وأن السيطرة على الأرض لا تضمن إخضاع شعب يرفض الخضوع، ما يجعل من هذه المقامرة خطوة محفوفة بكل أشكال المخاطر، وقد تتحول من محاولة للهروب إلى الأمام إلى سقوط حر نحو أزمة أعمق.
هكذا تدخل إسرائيل مرحلة جديدة من الصراع، حيث تتقاطع خطوط النار الخارجية مع الانقسامات الداخلية، ويصبح القرار العسكري جزءًا من معركة سياسية داخلية بامتياز، وبقدر ما يسعى نتنياهو لترسيخ سلطته عبر هذا الاحتلال، بقدر ما يفتح الباب أمام سيناريوهات قد تعصف بمستقبله السياسي، وتضع إسرائيل بأكملها أمام هاوية استراتيجية لا مخرج منها في المدى المنظور.
