صدى الشعب – خاص
تلوح في الأفق السياسي الأردني ملامح إعادة هيكلة شاملة في بنية الجهاز الحكومي، وهيكلة الوزارات والمؤسسات الرسمية، بما يعكس تحولاً في فلسفة الإدارة العامة وتوجهات الدولة نحو تكامل وظيفي يراعي متطلبات المرحلة، ويستجيب لمقتضيات التحديث الشامل الذي دعا إليه جلالة الملك عبدالله الثاني في مساراته الثلاثة: السياسي، والاقتصادي، والإداري.
الحديث المتزايد عن دمج وزارات قائمة، مثل وزارة الشباب ووزارة الثقافة، ووزارة البيئة ووزارة الصحة، ووزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى قراءة عميقة للمشهد الوطني، ولقناعة بدأت تتبلور بأن تعدد المرجعيات الوزارية في بعض الملفات أرهق الأداء الحكومي، وشتّت الجهود، وأضعف الأثر المنشود من السياسات والبرامج.
في حالة وزارة الشباب والثقافة، بات من المنطقي طرح خيار الدمج نظرًا لتقاطع الأدوار والرسائل الموجهة إلى ذات الفئة المستهدفة، أي فئة الشباب، فالثقافة لم تعد مفصولة عن العمل الشبابي، بل هي جزء من بناء الهوية والانتماء وتعزيز التفكير النقدي. ودمجهما تحت مظلة واحدة سيعزز التنسيق ويوحد الجهود، بشرط أن تُصاغ الهيكلة الجديدة بطريقة تراعي خصوصية كل قطاع وتحفظ منجزاته.
أما دمج البيئة بالصحة، فيعكس اتجاهاً عالمياً حديثاً يرى أن صحة الإنسان لا تنفصل عن صحة البيئة، وأن السياسات البيئية يجب أن تكون جزءًا من استراتيجيات الصحة العامة.
هذا الدمج قد يُحدث نقلة نوعية إذا ما تم بناؤه على رؤية علمية ومؤسسية تُوظّف التكنولوجيا وتُفعّل الرقابة البيئية والصحية بالتوازي.
ويُضاف إلى ذلك سيناريو دمج وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، وهو طرح لا يخلو من الجرأة، لكنه يستند إلى مبررات واقعية، أهمها الحاجة إلى مواءمة السياسات التعليمية من مرحلة المدرسة حتى الجامعة، وخلق مسار معرفي متكامل، بعيداً عن التشتت بين مرجعيتين.
هذا الدمج، إن أُحسن تنفيذه، سيُعيد ضبط بوصلة التعليم وفق رؤية وطنية موحدة، ويمنح الوزارة الواحدة صلاحيات أكبر لصياغة سياسات ترتكز على الجودة والارتباط بسوق العمل واحتياجات الدولة.
إلغاء بعض الوزارات التي لا تحمل وزناً تنفيذياً حقيقياً على الأرض، أو تلك التي تتداخل مع غيرها في الاختصاصات، يبدو خياراً واقعياً، وقد يكون جزءاً من مسار تقليص حجم الحكومة من حيث العدد، وتوسيعها من حيث الأثر.
أما مسمى “وزير الدولة“، الذي أثار جدلاً لسنوات، فقد حان وقت إعادة تعريفه وتحريره من الصيغة البروتوكولية التي جعلته منصبًا بلا أثر ملموس.
فالمرحلة المقبلة قد تشهد إلغاء مسميات وزراء الدولة ممن لا يحملون حقائب تنفيذية فعلية، مع الإبقاء فقط على “وزير دولة لشؤون رئاسة الوزراء”، ولكن بمسمى جديد يعكس بدقة طبيعته التنسيقية والإشرافية على الأداء الحكومي، ودوره في ضمان الانسجام بين المكونات التنفيذية للدولة.
وفي هذا السياق، من المتوقع الإبقاء على وزير آخر تحت مسمى “وزير دولة“، يتولى ملفات إعلامية فاعلة، بصلاحيات واضحة ومباشرة تتعلق بإدارة الاتصال الحكومي، وتوحيد الخطاب الرسمي، وتعزيز الحضور الإعلامي للدولة داخلياً وخارجياً، في مواجهة حملات التشويش أو التضليل، وفي سياق التحديث الإعلامي الوطني.
هذا التوجه يُظهر رغبة واضحة في الانتقال من مرحلة التوصيف الشكلي إلى تمكين الأداء الفعلي ضمن بنية حكومية أكثر رشاقة وتخصصاُ.
هذا السيناريو التحويلي، إن تحقق، لن يكون مجرد إعادة توزيع للأسماء، بل خطوة إصلاحية جريئة تعكس استعداد الدولة لإعادة هندسة بنيتها التنفيذية بما يواكب تطلعات الأردنيين ويستجيب لحجم التحديات، وفي مقدمتها ترشيد الإنفاق، ورفع كفاءة الأداء، وتعزيز التكامل بين المؤسسات.
وفي النهاية، تبقى هذه التوجهات رهينة القرار السياسي الأعلى، لكنها إن تمت بروح إصلاحية حقيقية وبمنهج تشاركي، فإن الأردن مقبل على مرحلة مؤسسية أكثر نضجاً ووضوحاً، تسير فيها الحكومة بخطى أكثر ثباتاً نحو بناء إدارة حديثة، تليق بمئوية الدولة الثانية، وتتماهى مع رؤية جلالة الملك في بناء دولة الإنتاج والكفاءة والحوكمة الرشيدة.
