شهدت مدينة الزرقاء الاسبوع الماضي حادثة مأساوية أثارت مشاعر الحزن والغضب بالمملكة، حين أقدم أب على إلقاء طفليه في مياه سيل الزرقاء، الحادثة المؤلمة فتحت باب التساؤلات حول الأسباب التي دفعت لارتكاب مثل هذا الفعل، وما إذا كانت التحديات الاجتماعية والاقتصادية قد تلعب دورًا في زدياد الجرائم الاسرية .
وفي تفاصيل الحادثة الطفلة ذات الخمسة أعوام وشقيقها الرضيع البالغ ثمانية أشهر كانا ضحيتين لنزاع عائلي، وانتهت حياتهما بطريقة مأساوية، وبعد سبع ساعات من البحث المستمر، تم العثور على جثتي الطفلين الطاهرتين غارقين في مياه السيل، ليبدأ التحقيق في خلفيات هذا الفعل.
وأظهرت إحصائيات سابقة لجمعية معهد تضامن النساء الأردني أن عام 2024 شهد زيادة بنسبة 18.5% في عدد ضحايا الجرائم الأسرية مقارنة بالعام السابق، حيث تم تسجيل 25 جريمة أسفرت عن 32 ضحية، بينهم 25 حالة وفاة و7 إصابات.
وفيما يخص الأسباب النفسية والاجتماعية وراء مثل هذه الجرائم الاسرية، أكد مختصون في علم النفس وشؤون الأسرة أن الجرائم الأسرية أصبحت تمثل انعكاسًا خطيرًا لتداخل مجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
وأشاروا خلال حديثهم لـ”صدى الشعب” إلى أن غياب التبليغ عن حالات العنف الأسري يعد من أبرز التحديات التي تفاقم المشكلة، محذرين من تصاعد الظاهرة في ظل تفكك العلاقات الأسرية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، فضلًا عن تأثير المخدرات والأمراض النفسية.
ودعوا إلى تعزيز ثقافة الإبلاغ وتوفير بيئة آمنة للتعامل مع الحالات المبلغ عنها، مؤكدين على أهمية دور المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية في تعزيز القيم الاجتماعية التقليدية في مواجهة تحديات العولمة والقيم الفردية.
غياب التبليغ عن العنف
الى ذلك أكد الأمين العام للمجلس الوطني لشؤون الأسرة، الدكتور محمد مقدادي، أن المشكلة الكبرى في الجرائم الاسرية التي تحدث تكمن في غياب التبليغ عن حالات العنف الأسري السابقة.
وأوضح مقدادي خلال حديثه لـ”صدى الشعب” أن العديد من المواطنين يتجنبون الإبلاغ عن حوادث العنف داخل الأسرة، حيث إن بعض الأمهات قد يشهدن تعرض أطفالهن للعنف أو يعانين هن أنفسهن منه، إلا أنهن يمتنعن عن التبليغ خوفًا من الفضيحة أو الوصمة الاجتماعية، ما يؤدي إلى تفاقم هذه الظاهرة.
وأشار إلى أن الأردن يمتلك بنية تحتية متطورة في مجال حماية الأسرة، حيث تم إنشاء إدارة حماية الأسرة والأحداث منذ عام 1997، التي تضم اليوم 17 قسمًا موزعة في مختلف أنحاء المملكة، موضحًا أنها تقدم خدمات شاملة تشمل الجوانب القانونية والصحية والاجتماعية.
وأكد أن الحالات التي يتم التبليغ عنها تخضع لدراسة اجتماعية شاملة، تُقدم من خلالها الخدمات الصحية اللازمة، ويتم اتخاذ الإجراءات القانونية وفقًا لقانون الحماية من العنف الأسري، مضيفا أنه في الحالات التي تستدعي الإحالة إلى الادعاء العام، يتم ذلك، أما في الحالات الأخرى فيتم اللجوء إلى تسوية النزاع.
وأوضح أن المشكلة تكمن في الحالات التي لا تصل إلى إدارة حماية الأسرة، حيث تبدأ بعض حوادث العنف بشكل بسيط لكنها تتفاقم إذا لم تُعالج مهنيًا، ما يؤدي إلى حوادث أشد خطورة، مستشهدًا بحادثة الزرقاء، التي قام فيها رجل برمي أطفاله، معتبرًا أنها ليست حادثة عرضية، بل نتيجة تراكم مشكلات أسرية لم يتم الإبلاغ عنها.
وأضاف أنه من غير المنطقي أن يصل شخص إلى هذا المستوى من العنف دون وجود سوابق للعنف داخل الأسرة، مشيرًا إلى أن الحادثة لم يكن لها أي بلاغ سابق لدى إدارة حماية الأسرة، وفق المعلومات المتوفرة.
وأكد أن اكتشاف حالات العنف الأسري يتطلب تشجيع الأفراد على الإبلاغ، لأن غياب التبليغ يؤدي إلى تصاعد العنف وارتكاب جرائم مروعة.
كما أوضح أن الأسرة، التي يُفترض أن تكون المكان الأكثر أمانًا للأطفال، قد تتحول أحيانًا إلى مصدر خطر عليهم، خصوصًا إذا كان احد افراد العائلة هو مصدر العنف.
وفيما يتعلق بأسباب العنف الأسري، أوضح أن هناك تداخلًا بين عدة عوامل تؤدي إلى هذه الظاهرة، مثل تعاطي الكحول والمخدرات، الأمراض النفسية كالاكتئاب، الفقر، البطالة، وبعض المعايير الاجتماعية التي تقبل العنف كوسيلة للتأديب، مبينا أن تداخل هذه العوامل يزيد من احتمالية وقوع العنف.
وأكد أن إدارة حماية الأسرة تعتمد على دراسة شاملة للحالات التي تصل إليها، مع الأخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي، النفسي، والاجتماعي للأسرة، مشيرًا إلى أن غياب التدخل المهني يسهم في تفاقم المشكلات، ولذلك، تتعامل الإدارة مع قضايا العنف الأسري من خلال استجابات متعددة تشمل الجوانب الصحية، الاجتماعية، والقانونية.
واكد على أهمية تعزيز ثقافة الإبلاغ عن العنف الأسري وتوعية المجتمع بأهمية التدخل المبكر، موضحًا أن التغاضي عن هذه القضايا يزيد من خطورة المشكلة ويؤدي إلى نتائج سلبية على الأسرة والمجتمع ككل.
اغتراب اجتماعي
من جانبه أكد أستاذ علم الاجتماع والجريمة في جامعة مؤتة، الدكتور حسين محادين، أن المجتمع الأردني، كجزء من منظومة عالمية معولمة، يشهد تحولات اجتماعية عميقة تتمثل في تفكك العلاقات الأسرية والتنظيمية، خاصة في ظل ارتفاع نسب البطالة واتساع دائرة الفقر.
وأوضح محادين خلال حديثه لـ”صدى الشعب” أن تأثير التكنولوجيا وأدوات التواصل الحديثة أسهم بشكل كبير في تفكيك المنظومة القيمية التقليدية لصالح القيم الغربية المرتبطة بالعولمة، التي تهدف إلى إذابة البناء الأسري.
وأشار إلى أن الأسرة هي المحضن الذي نتعلم فيه القيم الأساسية مثل الحلال والحرام، والمسموح والممنوع، إلى جانب قيم التكافل والتضامن الأسري، مضيفا انه مع تراجع قوة هذه العلاقات التقليدية بين الأسرة وبيئتها الاجتماعية، بدأت القيم الفردية بالسيطرة، ما أوجد شعورًا بالاغتراب لدى الأفراد عن أسرهم ومجتمعاتهم المحلية والوطنية.
وأضاف أن هذا الاغتراب أسهم في ظهور نمط جديد من الجرائم، خاصة الجرائم الأسرية، التي تُعد مؤشرًا خطيرًا على التغيرات الاجتماعية الجارية.
وأشار إلى أن الظروف الاقتصادية الضاغطة ساهمت في تسريع ظهور هذا النمط، مشددًا على ضرورة عقد مؤتمر وطني لحماية الأسرة الأردنية، بمشاركة جميع المؤسسات والوزارات والجامعات ورجال الدين والقادة المحليين، بهدف الحفاظ على النسيج الاجتماعي للمجتمع الأردني، خصوصًا في ظل الصراعات والاستهدافات التي يشهدها الإقليم.
وأوضح أن تفسير الجرائم الأسرية لا يقتصر على وجود المخدرات أو الأمراض النفسية فقط، رغم تأثيرها النسبي، بل يجب النظر إلى عوامل أخرى مثل تفكك العلاقات الضابطة وتراجع الأدوار الدينية والاجتماعية للمؤسسات، بدءًا من الأسرة ومرورًا بالمساجد والكنائس، وصولًا إلى الإعلام، الذي رغم انتشاره الواسع، لم يتمكن من تعزيز القيم المجتمعية التقليدية.
وقال إن كل هذه العوامل المتفاعلة تفضي إلى هيمنة القيم الفردية “الأنا” على حساب قيم “نحن”، مما يتطلب جهودًا جماعية لحماية المنظومة القيمية والمجتمعية للأردن.