في إقليم تتزاحم فيه صراعات الوجود والنفوذ، بات مشروع التحديث الوطنيّ الشامل ضرورةً ملحةً أكثر من أي وقت مضى، فالتحديث السياسي نحو الحزبية البرامجية أساس لتعزيز جوانب قوة الدولة الاردنية بالتزامن مع التحديث الاقتصادي الذي لا يمكن أن يتحقق إلّا بإدارة عامّة كفؤة و نزيهه، تعي حقاً سبب وجودها وأمانة خدمة المواطن و تعزيز الاستثمارات وجذبها واستدامتها، فإدارة القطاع العام بكفاءة تخلق بيئة صديقة للتحديث السياسي والاقتصادي.
حتى في الحزبية البنّاءة والمؤسسات الديمقراطية، فإن إدارتها بحصافة، ستمكن الأفراد والأحزاب من العمل في بيئة تضمن المنافسة الشريفة وتحقق التمثيل العادل المبني على الكفاءة و التنافس على خدمة الصالح العام بعيداً عن المصالح الشخصية أو أية تأثيرات أخرى. فالإدارة العامة الفاعلة تدعم بناء مجتمع ديمقراطي متماسك واعٍ وقادر على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية معاً. فقنواتها المفتوحة للمساءلة والمشاركة المجتمعية، أداة لتوحيد الجهود الوطنية نحو تحقيق أهداف مشتركة تخدم المصالح الوطنية العليا.
تاريخياً، كانت الإدارة أقدم وأهم وظيفة تطورت مع المجتمعات البشرية لتحقيق الأهداف المشتركة، لتصبح في العصر الحديث، قاطرة حقيقية تدفع عجلة التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية فالإدارة العامة ليست مجرد إطار تنفيذي أو آلية روتينية؛ بل هي العمود الفقري للتنمية الشاملة وأداة فعالة لتعزيز المنعة الوطنية في جميع القطاعات.
كما هي التحديات في الاقليم مستمرة، كذلك هي فرصه، فبالتركيز على الاقتصادية الاستراتيجية منها، تكون حوكمة الادارة والتزامها بسيادة القانون وتكافؤ الفرص، أساساً يخلق بيئة استثمارية محفزة لتنمية الموارد والكفاءات واستقطاب الاستثمارات والشراكات الاستراتيجية، بمرونة بعيدة عن الروتين المعيق والبيروقراطية الطاردة، تعزز الثقة بين الحكومة والمستثمرين والمواطنين على حد سواء، ضمن بيئة جاذبة فسياساتها واضحة، وتستثمر مواردها بفضلى الممارسات، وتعزز الاقتصاد الوطني وتحفز التنمية المستدامة في مجالات واعدة كالطاقة النظيفة، والمياه و الزراعة بالتكنولوجيات الحديثة وأتمتة العلوم و الخدمات.
الأمثلة الحية على نجاح الإدارة العامة في تحقيق التنمية تتجلى في تجارب الدول التي تبنت التخطيط الاستراتيجي وحوكمة الادارة العامة، فسنغافورة مثلا، قدمت نموذجاً يُحتذى به في بناء منظومة إدارية فاعلة ساهمت في نهضتها الاقتصادية والاجتماعية، رغم محدودية مواردها الطبيعية. أما السعودية والإمارات، فقد استطاعت من خلال رؤية واضحة وإدارة متقدمة أن تعزز مواردها لتصبح مراكزاً اقتصادية هامة في فترة زمنية قصيرة.
ثروة الأردن الحقيقية في رأس ماله البشري، فهو وقود تنميته الشاملة، وسط ظروف اقليمية و عالمية ماعادت الموارد التي كنا نشكو شحها هي الأساس، بل إنّ كل فرص اليوم و المستقبل نملك معطياتها، فلا بد لنا واليوم قبل غداً من السير بالتحديث الاقتصادي تزامنا مع تحديث القطاع العام، بخطة عمل محددة الأهداف، تعالج الضعف وتركز على الابتكار، وتمكن الكفاءات البشرية وخاصة الشباب من قنص فرص المستقبل، و الحفاظ على دور الاردن لاعبا فاعلاً في شراكات استراتيجية واعدة، فالتخطيط السليم لن يوقف هدر الموارد وحسب، بل سيوجه نحو أُفقٍ لفرص واعدة ضمن مشاريع وشراكات محلية وإقليمية وعالمية تنموية مستدامة، تتظافر فيها جهود القطاعين العام و الخاص بشكل حقيقي، فالعمل الحقيقي سيتحدث عن نفسه أو بالأحرى سيحدث أثراً في حياة المواطن الذي يستحق، وسيبقي المستثمر و يجلب غيره، و يقوي الآردن ليعبر تحديات مصيريه ليخرج منها أقوى، نعم هي فرص ووظائف المستقبل، فكيف نعد لذلك، في نهج حكومي جديد بدى بجولاته و قراراته منحازاً لذلك، نرقبه بكل تفاؤل