صدى الشعب – د.إبراهيم بدر الخالدي
إن أحد أهم أوجه إصلاح التعليم هو تحقيق العدالة بين الطلاب فيما يتلقونه من علوم ومعارف ، وما يحصلون عليه من درجات تعكس مستواهم الحقيقي في هذا الأمر ، ولا يتأتى هذا مع اختلاف المناهج الدراسية وتباين السياسات التعليمية بين جامعة وأخرى في الساحة الوطنية على الأقل .
وبما أن غالبية الطلبة الخريجين سيتقدمون للتوظيف عبر ديوان الخدمة المدنية ، وسيخضعون لامتحان موحد ؛ على افتراض أنهم قد حصلوا من العلم ما يمكنهم من اجتياز الامتحان وتولي الوظائف الشاغرة ، فيفترض أن يكون جميع المتقدمين متماثلين في الحصول على المعارف والمهارات التي تؤهلهم للوظائف التي يرغبونها كل حسب تخصصه ، رغم اختلاف الجامعات ومناهل العلم . ولكن الواقع يشهد بخلاف ذلك ؛ فهناك جامعات تقدم لطلبتها مناهج دسمة شاملة متكاملة مدعمة بالنشاطات الإثرائية ، مقابل جامعات تقتصر المناهج فيها على وريقات هزيلة في ( دوسية ) مصورة ، تباع للطلبة في المكتبات المجاورة ، وبعض هذه ( الدوسيات ) لا يتجاوز العشرين ورقة من إعداد المدرس الذي يمارس مهنة التجارة بهذه المؤلفات إلى جانب مهنة التدريس ؛ فكيف نساوي بين خريجي الجامعة الأولى وخريجي الجامعة الثانية ، وكيف نلزم الطلبة جميعاً بامتحان موحد مع تفاوت القدرات والتحصيل ؟! إن هذا الخلل يستوجب إعادة النظر في المناهج والمقررات الجامعية وسياسات القبول ومطالب التخرج ، بما يحقق العدالة في التحصيل والتوظيف .
ومن الاقتراحات التي من شأنها تحقيق هذا الهدف توحيد الكتب المقررة والمناهج التدريسية في الجامعات الأردنية كافة ، ولاسيما في المواد الأساسية المشتركة العامة ، وإلزام الجامعات في هذا الأمر ، بحيث لا يجوز لها اتخاذ مناهج خاصة بها على حساب هذا المشروع الوطني الرائد . إن هذه الفكرة ، فكرة توحيد الكتب والمناهج في الجامعات ليست جديدة ، وليست فريدة في بابها ، ولن نكون بدعاً في هذا الأمر ، فقد سبقتنا إلى هذه المكرمة دول عديدة ، منها العراق تحديداً وسواه من الدول العربية الشقيقة ، التي عملت منذ عقود طويلة على توحيد المناهج وضبط التعليم في مؤسساتها التعليمية ، وبالتالي ضبط عملية التأليف والنشر ، وهو ما رفع سوية التعليم فيها ، انعكست آثاره الإيجابية في مستوى الخريجين ، ونوعية ما قدموه لأوطانهم ولأمتهم عامة .
إن من أهم فوائد توحيد المناهج الجامعية اضطرار الجامعات الأردنية مجتمعة إلى إعداد مناهج معتبرة غنية شاملة رصينة ، ذات مضامين علمية قيمة ، تخلو من الأخطاء الشكلية والموضوعية ؛ لأن الجميع سيساهم في نقدها وتصويبها وتطويرها باستمرار ، ثم نقضي على ظاهرة المتاجرة بالمؤلفات الهزيلة التي يعدها المتطفلون على العلم ، بهدف الاسترباح غير الشرعي على حساب الطلبة وذويهم .
ولعل ما يدعم هذه الفكرة ويعززها ويمنحها القبول العام والقوة الرسمية إنشاء مركز وطني مستقل لهذه الغاية ، برعاية رسمية وقانون خاص ، تحدد فيه غاياته وأهدافه بقانون إنشائه ، على أن تشكل لذلك لجنة خاصة من العلماء الأجلاء المخلصين ، تكلف بإنشاء المركز الذي يهدف إلى إعداد المناهج التعليمية للجامعات ، بطرائق علمية وفنية عالية المستوى ، وتقوم بعمليات التوجيه والتنسيق بين نشاطات المركز والجامعات المتعاونة والخبراء والمؤسسات التعليمية المختلفة ، وتعمل على تشكيل لجان فرعية مؤهلة ذات خبرة ودراية في إعداد المناهج وتأليف الكتب ، ولا يشترط أن تكون هذه اللجان دائمة أو مفرغة تماماً لهذا الأمر ، بل تتجدد وفق الظروف والأحوال ، أو تكلف بواجبات معينة بحيث ينتهي دورها بإنجاز ما كلفت به . وقد يستعان بخبراء ومختصين من خارج المركز لهذه الغاية ، بحيث تختص كل لجنة منها بفرع معين من فروع المعرفة ، وتعمل على إعداد كتاب من الكتب المقررة الأساسية المتخصصة ، ضمن شروط معينة ومعايير نموذجية ، بحيث تصبح هذه الكتب مراجع معتمدة للتدريس في الجامعات الأردنية كافة ، على أن تكون جيدة الإعداد من حيث قوة المادة العلمية وأصالتها وحداثتها ، وسلامة اللغة والتعبير ، وجودة الإخراج والتنضيد ، مزودة بالصور والرسومات التوضيحية والملاحق الشاملة ، وأن تتم مراجعتها عدة مرات ، بحيث تصدر خالية من العيوب التي تطفح بها الكتب والمقررات الحالية . ويراعى فيها القيم النبيلة والأخلاق الحميدة التي تنطلق من قيم الدين الإسلامي الحنيف ومبادئه . وأن يصدر قانون خاص يلزم الجامعات والمعاهد بألا يقر أي كتاب إضافي للتدريس فيها إلا بعد حصوله على موافقة المركز الوطني للمناهج .
فإذا ما أعدت الكتب بهذه الطريقة وفق معايير المركز النموذجية ، يتم بيعها للطلاب عن طريق الجامعات نفسها ، بحيث يدخل ريع هذه الكتب في موازناتها ، وبذلك نكون قد غطينا جزءاً من العجز المالي الذي تعاني منه تلك الموازنات ، كما نكون قد أوقفنا تطفل المؤلفين وجشع الناشرين ، وقطعنا عليهم الطريق في ابتزاز الطلبة والجامعات ، ووفرنا مبالغ كبيرة ندعم بها موازنات الجامعات التي تعاني من مديونية ثقيلة ، ما تفتأ تتطفل على موازنة الدولة فتزيدها عجزاً على ما فيها من عجز دائم .
وأهم ما في الأمر توفير مادة علمية سليمة رصينة للطلبة ، تصلح مراجع علمية محكمة ، يفيدون منها ويحتفظون بها في مكتباتهم الخاصة ، فيتولد لديهم إحساس بأهمية الكتاب وتتعزز في عقولهم قيمة العلم التي أهدرت بسبب دوسيات المتاجرة . وقد تُسوَّق هذه الكتب ، لما في مضامينها من جودة ورصانة وفائدة علمية ، في جامعات الدول العربية والإسلامية ، وللراغبين في اقتنائها من خارج الجامعات ، وهو ما يدعم موازنة المركز نفسه ، بل موازنة الدولة ذاتها ، فنكون بذلك قد أفدنا طلبتنا وجامعاتنا ، وجمعنا إلى التعليم قيم التربية التي تآكلت شيئاً فشيئاً في جامعاتنا بفضل سياسات خاطئة ، غير منسجمة مع قيمنا وثوابتنا الدينية والوطنية .
وقد يعتمد المركز مرجعاً وطنياً أو عالمياً للحصول على شهادة أو وثيقة تثبت جودة الكتب للنشر والتوزيع ، بما يقابل شهادة ( الآيزو ) العالمية ؛ فالمؤلف الذي يرغب في الحصول على شهادة التميز لكتابه ، له الحرية متى أراد أن يتقدم إلى المركز بمخطوطة كتابه للحصول على تلك الشهادة .
والكتاب الذي يدخل في سجلات المركز ، ويحصل عل ختمه وشعاره وشهادة بذلك ، يعني ذلك أنه كتاب متميز ، ويستحق أن يطبع ويوزع ويقرأ ؛ لما يحمله ختم الثقة من معاني الجودة والأصالة ، والسلامة من الأخطاء الفكرية واللغوية ؛ ويعزز قناعة القارئ بمضمونه وفائدته العلمية .
ولكي يتحقق تنفيذ هذا الاقتراح ، فلا بد من جملة أمور متعاضدة متآزرة ، يأخذ بعضها بزمام بعض ، هي : قناعة تامة بجدوى إنشاء مثل هذا المركز الوطني ، وعقول واعية تؤسسه وتشرف عليه ، وإرادة سياسية تسرع بإنجازه ، وضمائر مخلصة تحرص عليه ، وإيمان بالواجب تجاه العلم والوطن والأجيال الصاعدة . فإن توافرت هذه الأمور بدرجة مناسبة ، فلا شك أن هذا الاقتراح سيأخذ سبيله إلى التطبيق بيسر وسهولة ، وستتحقق الفوائد الجليلة التي أشرنا إليها بالصورة التي نرومها منه وأزيد . وأنا على مِثل اليقين ، أنه بإنشاء هذا المركز الوطني ، نكون قد أسسنا صرحاً علمياً اقتصادياً فاعلاُ ، يدر علينا دخلاً يفوق ما يدره مجمع صناعي كبير ، فضلاً عما ما يحققه لنا من سمعة علمية وطنية تنساح في الآفاق ، وتتجدد بتجدد الليل والنهار .
والله الهادي إلى سواء السبيل..