صدى الشعب – لا يستغرب المتابِع للشأن اللبناني سماع مطالبات من قبيل”لا للتواجد، والنفوذ والسفارة الإيرانية… نعم لقطع كافة العلاقات، ومنها الدبلوماسية، مع إيران”. مطالبات تكثّفت ردّاً على تصريحات، تخصّ لبنان، وردت على لسان رئيس مجلس الشورى الإيراني، محمد باقر قاليباف، مؤخّراً. واللبنانيون لا يجمعون عليها – أي المطالبات المذكورة – طبعاً.
إنها ليست سوى عيّنة عن الانقسام الأفقي والعمودي حيال تحديد الصديق والعدو في القاموس اللبناني. وفيها ما يشي بأن لبنان الرسمي أبعد ما يكون عن الإمساك بزمام قراره بعيداً عن التدخّلات الخارجية، إيرانية أكانت أم سواها.
قبل أيام، أعلن قاليباف أن المرشد والمسؤولين والشعب الإيراني هم الركيزة الأساسية للبنان. وسبق ذلك تصريحاً آخر له بأن إيران مستعدّة للتفاوض مع فرنسا بشأن تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 لوقف إطلاق النار في لبنان. تصريحان أثارا جدلاً واسعاً في الأوساط اللبنانية.
فالبعض يعتبر أن إيران تلعب دوراً سلبياً على الساحة السياسية اللبنانية، متّهماً إياها بالتدخّل في شؤون البلاد الداخلية واستغلال الوضع السياسي المعقّد لتحقيق أهداف إقليمية تخدم مصالحها على حساب الاستقرار والسيادة اللبنانية. لا بل يرى قسم كبير من اللبنانيين أن في التدخّلات انتهاكاً لسيادة لبنان وسبباً مباشراً للأزمات السياسية المتلاحقة.
وكان رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، قد عبّر عن رفضه للكلام الإيراني، حيث أشار إلى إبلاغه القيادات الإيرانية بضرورة تخفيف العاطفة تجاه لبنان. وأضاف: “نستغرب هذا الموقف الذي يشكّل تدخّلاً فاضحاً في الشأن اللبناني، ومحاولة لتكريس وصاية مرفوضة على لبنان، علماً بأننا كنا أبلغنا وزير الخارجية ورئيس مجلس الشورى الإيرانيّين، خلال زيارتيهما إلى لبنان أخيراً، بضرورة تفهُّم الوضع اللبناني. إن موضوع التفاوض لتطبيق القرار الدولي رقم 1701 تتولّاه الدولة اللبنانية، ومطلوب من الجميع دعمها في هذا التوجه، لا السعي لفرض وصايات جديدة مرفوضة بكل الاعتبارات الوطنية والسيادية”.
كما هو متوقّع، رفضت الخارجية الإيرانية اتهامات ميقاتي، وأكدت التزامها بمبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مشدّدة على احترام سيادة لبنان. فأفضل مسار لتسوية الوضع السياسي في لبنان، بحسب الدبلوماسية الإيرانية، هو وجود حوار لبناني – لبناني. واختيار رئيس جمهورية هو شأن خاص باللبنانيين والقوى الفاعلة على الساحة اللبنانية، ومنها “حزب الله”. ونفت أي نية لديها للتدخّل في الشأن اللبناني أو شؤون أي دولة أخرى.
التوضيح الإيراني لم يحُل دون اعتبار فئة من اللبنانيين أن طهران تنازلت عن المحور لمكاسبها الخاصة وتلاعبت بدماء اللبنانيين، وعليه يجب إغلاق مقرّاتها في لبنان ومحاكمة “عملائها”. وفي حين دعا البعض رئيس الحكومة اللبنانية لطرد السفير الإيراني من بيروت (كرسالة تعكس إرادة اللبنانيين في استعادة السيطرة على مقدراتهم) وقطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وجد آخرون أن السفير يعكس نفوذاً متزايداً لطهران في لبنان ما يساهم في زعزعة الأوضاع الأمنية. وذكّروا بكلام قبل سنوات للّواء الراحل قاسم سليماني فاخر فيه بحصوله على 74 نائباً في البرلمان اللبناني. وشخّصوا التصاريح الرسمية الإيرانية بالمهينة للطائفة الشيعية وللشعب اللبناني على السواء.
في اتصال مع جريدة “الحرّة”، وصف العميد اللبناني المتقاعد، جورج نادر، كلام قاليباف بالتدخّل الفاضح والعلني بالشأن اللبناني. “باتت الأمور واضحة ولا تحتمل أي تفسير، ونحن نعلم أن سلاح “حزب الله” تابع بشكل مباشر وعقائدي وأساسي وعضوي للمرشد الأعلى. وقد أعلن السيّد حسن نصرالله أكثر من مرة أنه جندي في ولاية الفقيه”.
نادر اعتبر أن إيران ليست الطرف الوحيد الذي يتدخّل بالشؤون اللبنانية. فهناك، مثلاً، التدخّل الأميركي والفرنسي، رغم أن البعض – من موقعه المقابل – يرى فيه مصلحة للبنان. “لقد اعتدنا العيش على أوامر السفراء والمبعوثين الأجانب لانتخاب رئيس للجمهورية أو تشكيل حكومة. ضعف السلطة المركزية والسلطتين التنفيذية والتشريعية هو ما سمح بتغذية التدخّلات الخارجية. أنا شخصياً أؤيّد طرد السفير الإيراني وقطع العلاقات مع إيران ومع أي دولة تتدخّل بهذا الشكل في لبنان. هناك أكثرية لبنانية ترفض التدخّل الإيراني وما يقوم به “حزب الله”، مقابل أقلية موالية له. الشعب اللبناني ليس منقسماً إنما السلطة اللبنانية هي التي باتت فاقدة السيادة والكرامة رغم مرارة الكلمة”.
من ناحيتهم، يعتقد من هُم في المقلب الآخر أن قطع العلاقات مع إيران لا يصبّ في مصلحة لبنان، باعتبار أن طهران تشكّل ضمانة للاستقرار الأمني الداخلي، خصوصاً في ظل التوترات الإقليمية. فمؤيّدو “الحزب”، على سبيل المثال، يرون في سلاحه المدعوم إيرانياً قوة ردع ضد التهديدات الخارجية، لا سيّما الإسرائيلية منها وفي ظلّ حرب الدولة العبرية الهمجية الراهنة على لبنان.
مصدر مقرّب من “حزب الله” شدّد لجريدة “الحرّة” على أن رئيس مجلس الشورى الإيراني وضّح التحريف الذي شاب ترجمة نصّ مقابلته مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية. أما موقف الرئيس ميقاتي، فلم يلقَ أي اعتراض من “الحزب” أو من رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري. فهو فعل ما رآه مناسباً، بحسب المصدر. “تصريح الرئيس قاليباف، في حال صحّته، لم يكن موفّقاً، لأنه ينطوي على عدم احترام حلفاء إيران المحليين قبل أن يكون فرصة لمعارضيها للتصويب عليها والاصطياد في الماء العكر. وما صدر عن مجلس الشورى والخارجية الإيرانية يُعدّ واضحاً وكافياً”.
مع قطع العلاقات مع إيران أو ضدّها، لا يختلف اثنان على أن لبنان دولة تعاني من انتهاك مزمن للسيادة. في حديث لقناة “سكاي نيوز عربية”، أشار الكاتب والمحلل السياسي اللبناني، بشارة شربل، إلى أن اللبنانيين هم من استهانوا بأنفسهم وسلّموا نفسهم إلى محاور عدّة، خاصة المحور الإيراني. “يصعب على الإيراني تغيير عاداته ومفاهيمه التي درج عليها منذ عشرين عاماً. فهو يعتقد أن علاقته بالدولة اللبنانية تمرّ بـ”حزب الله” الذي يقوم بتسليحه وتمويله، وبالتالي فالكلمة العليا له. الإسرائيليون يحاولون طبعاً فرض شروطهم على لبنان باعتبار أنهم يريدون حماية حدودهم. وبالتالي سيبقى لبنان دولة مستضعَفة إن لم تأخذ بوجوب انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تكوين المؤسسات وفرض سلطتها على كافة أراضيها”.
المطالبات، على تضاربها، إنما تعكس الانقسامات العميقة التي تعتري المجتمع اللبناني. والحرب، ببشاعتها وأهوالها، إنما تدفع إلى السطح بأشدّ أشكال تلك الانقسامات تطرّفاً. الجدل لن يسقط بين كون العلاقة الإيرانية – اللبنانية تدخّلاً سلبياً ومهدّداً للسيادة، وبين كونها ضرورة استراتيجية ملحّة. وهذا ينطبق على علاقة لبنان بغير دول. بانتظار حصول توافُق داخلي عميق يعيد للبنان، يوماً ما، شيئاً من هوية ودور مستقلّ في المنطقة.
كارين عبد النور – جريدة الحرة