صدى الشعب – كتب د. تهاني رفعت بشارات
يحكى أن الشيطان قرر الرحيل عن أرضٍ كان يسكنها مع أبنائه. وقبل أن يغادر، التفت إلى أحد أبنائه وقال له: “لن أرحل حتى أرى ماذا ستفعل هنا.” انطلق الشيطان الصغير بخفة نحو خيمة قريبة، حيث كانت بقرة مربوطة تُحلب بجوار امرأة تحتضن طفلها. ومن غير إدراك لما ستؤول إليه الأمور،حرك ابن الشيطان الوتد بجانب البقره فتحركت البقره بغير قصد واذت الطفل ، فانسكب بعض الحليب على الأرض. ثارت الأم غاضبة، وبدون تفكير، دفعت الطفل بعيدًا عنها، ليسقط أرضًا ويلقى حتفه في الحال.
عندما عاد الزوج من عمله ووجد طفله ميتًا والبقرة ساقطة على الأرض، استشاط غضبًا وهجم على زوجته بضربٍ مبرح. لم تلبث تلك الحادثة أن تحولت إلى فتنة انتشرت كالنار في الهشيم بين أفراد القبيلة. تصاعدت حدة الاتهامات بين الجميع، وتحولت الخلافات إلى عنف متبادل. هرع رجال القبيلة لضرب الزوج، وبدأت الأحداث تتوالى بسرعة مذهلة، لينتشر الدمار ويعمّ الفوضى.
عاد الشيطان الكبير بعد حين ليسأل ابنه عن ما فعله، فأجابه ببساطة: “لم أفعل شيئًا يُذكر… فقط حركت الوتد.” وفي هذه العبارة البسيطة تتجلى الحقيقة المُرّة: الفتنة لا تحتاج سوى شرارة صغيرة لتشتعل نيرانها، وقد تكون تلك الشرارة سببًا في هلاك مجتمع بأسره.
تبدو القصة للوهلة الأولى بسيطة، لكنها تحمل في طياتها رسالة عميقة. الفتنة، كالنار، تبدأ بشرارة تكاد لا تُرى، لكنها سرعان ما تتحول إلى نيران تلتهم الأخضر واليابس. قد تكون تلك الشرارة كلمة غير محسوبة، أو شائعة عابرة، أو حتى نميمة صغيرة، لكنها تمتلك القدرة على إشعال الكراهية وتفكيك العلاقات الإنسانية، تاركة وراءها قلوبًا مكسورة وأرواحًا محطمة.
إن النميمة هي أول شرارة في مسار الفتنة، وبذورها الأولى التي تُنبت الأحقاد. فكم من نزاعات كبرى بدأت بكلمات بسيطة، تُفقد أصحابها السيطرة على أنفسهم وتجرف المجتمعات نحو الهاوية. هنا تكمن خطورة الكلمة، فهي ليست مجرد أصوات تخرج من الأفواه، بل هي قوى خفية قد تكون جسورًا توصل بين القلوب أو معاول هدم تُسقط المجتمعات في الفوضى.
إن الفتنة أشد من القتل، لأنها لا تُفني الأجساد فحسب، بل تُدمر المجتمعات وتُشعل نيران الحقد والكراهية في القلوب، تاركة الأطفال يتامى والأوطان في حالة من الضياع والفوضى. وإذا أردنا الحفاظ على سلامة مجتمعاتنا، علينا أن ندرك تمامًا حجم المسؤولية التي تحملها الكلمة.
فلنكن حذرين في حديثنا، ولنزن كلماتنا قبل أن نطلقها، فالكلمة قد تكون سيفًا يُطعن به من نحب، أو شجرة زيتون تُثمر أملًا ومحبة. الصمت، أحيانًا، أفضل من كلمة قد تجرح أو تؤذي. لنحرص على أن يكون حديثنا دوماً في سبيل نشر الخير والحب، فالقلوب التي تحترق بالكراهية تفقد القدرة على الإبداع والعطاء، ولا تستطيع أن تبني أوطانًا قوية.
فلنتق الله في أقوالنا، ولنجعل من كلماتنا أداة لبناء جسور المحبة والسلام، بدلًا من أن تكون شرارات تشعل نار الفتن التي لا تبقي ولا تذر.