صدى الشعب – كتب زياد بركات
لم تستطع مذيعة قناة الجزيرة، رولا إبراهيم، تمالك نفسها، فتحشرج صوتها وكادت الدمعة تفر من عينها، وهي تقرأ الخبر العاجل الذي جاءها وهي على الهواء مباشرة. لقد استشهد إسماعيل الغول، الصحافي الغزّي الشاب الذي كان على الهواء قبل قليل من الوقت، من محيط منزل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، الذي استُشهد في اليوم نفسه.
كان الشاب صغير السن (27 عاماً) على وسامة ظاهرة، بعينين ناعستين بسبب قلة النوم ربما ولكن جميلتين. بحزن غامض يمنحه جاذبية مضاعفة، كأنك وأنتَ تتأمل ملامح وجهه أمام الغزّيين كلهم، أولئك الذين تُركوا في هذا العراء الإنساني الموحش، يتلقون وحدهم أطنان القنابل والمقذوفات والصواريخ، في الصيف والخريف الفائتين اللذين تلاهما شتاء قاس فربيع مغدور وصيف قائظ، بينما هم يُقتلون طيلة الوقت. يُهجّرون طيلة الوقت. يحملون خيامهم المصنوعة من البلاستيك المقوّى ويفرون من موت إلى آخر، على الهواء مباشرة، لما يقارب عاماً كاملاً، دون أن تتاح لهم فرصة الحزن الكافي، المشبع، الإنساني، أليس من حقهم أن يحزنوا بشكل كامل مثل بقية المحزونين في العالم؟
لماذا كادت رولا إبراهيم تبكي؟ لأن المشهد كله يُبّث على الهواء مباشرة منذ أكثر من 300 يوم، ولأنه مشحون درامياً أكثر مما يجب، فأنت في بيتك لا تتابع مسلسلاً درامياً تخون فيه بطلته ذلك الشاب، فيندفع إلى صخرة في البحر ليلقي نفسه في خضمه، وإذ يفعل تُركز الكاميرا على عينيه فتلمح حزناً غامضاً وغاضباً، بل أنت أمام شعب كامل يُذبَح، ويُخان جهراً لا من الصديق والقريب بل من الكون كله، فثمة تخلٍ يدفع المشهد الفلسطيني إلى قلب التراجيديات الكبرى، فعلى الأبطال أن يسيروا إلى قَدَرهم وحيدين، كأنما آلهة الأولمب أنزلت عليهم لعنتها، وتنبأت بأن يُخذَلوا ويُترَكوا ليُقتَلوا في حرب غير عادلة، بينما أنت تتابع فصول مأساتهم على شاشة التلفزيون عاجزاً حتى الصراخ.
إذ ذاك تحدث الألفة، التورط العاطفي إذا شئتَ، فماذا حدث مع وائل الدحدوح؟ تسأل زوجتك وأنت خارج من المطبخ، وأنت ترى الشريط الأحمر على الشاشة يتوسع ويتمدد حتى يحتل ثُلث الشاشة. عندما يحدث هذا، عندما تراه وهو البدين، الطيب، القريب إلى القلب كأحد أفراد العائلة، يمشي بتثاقل، ثم يقترب من جثة نجله، ثم يقبّل يده، وهو ينظر إلى فراغ الكون كله، بعينين حزينتين وحائرتين، قبل أن يقول معليش، لا تتمالك نفسك وأنت البعيد هناك، من البكاء والتفكير بضرب رأسك في الحائط، إذ كيف يحدث كل هذا مع هذا الرجل الذي يفيض طيبة، الذي كأنه شقيق بعيد، الذي كأنه شعبه كله؟
كان إسماعيل الغول على الشاشة دائماً. طيلة الشهور الثقيلة الماضية، في الليل والنهار، في الصباح والمساء، كنت تراه وبقية زملائه طيلة الوقت على الشاشة، وعندما كنت تراه وهو يركض مبتعداً عن منطقة القصف كان قلبك يركض معه، ويدعو لينجو، وكان ينجو، لتعود إلى مشاهدته وهو يتحدث على الهواء مباشرة عن ضحايا القصف الذي رأيته قبل قليل. وفي الليل عندما تخلد إلى النوم كنت تسأل نفسك ترى أين ينام إسماعيل؟ ماذا يفعل أنس الآن؟ ماذا عن هشام زقوت الذي لم نعد نراه كالسابق؟ وهل تأقلم الدحدوح في الدوحة؟ ألا يتشوق للعودة إلى النصيرات ولو لدقائق للوقوف على قبر زوجته وبقية أسرته؟ ولماذا تشعر بأن تامر المسحال يشعر بالذنب لأنه لم يعد في الميدان؟ ألذلك يبكي على الهواء، ويصبح وجهه أحمر محتقناً بالدم وهو يعلّق من الدوحة على رحيل رفاقه؟ وماذا عن مأمون الشرافي الذي قتلت إسرائيل اثنين وعشرين فرداً من عائلته؟ وهل سيظل إسماعيل أبو عمر ينظر إلى قدمه الاصطناعية كلما رأى صبية يلعبون بكرة القدم؟
لهذا وسواه بكت رولا إبراهيم والآلاف غيرها، فمن قرأت خبر مقتله قبل قليل كان جزءاً من حياتها وحياتهم. كان ينظر إليها وإليهم بعينيه الحزينتين لكن الجميلتين كلما ظهر على الشاشة.
لقد دفن بلا رأس يا إلهي في سمائك، وله طفلة كبرت على صوته وصورته في الهاتف النقال، وزوجة اسمها ملك، جميلة كبناتنا، وهي مفجوعة الآن كآلاف أمهاتنا وشقيقاتنا وبناتنا في غزّة، وكل بكاء الأرض من أجلهن وأجلهم قليل.