صدى الشعب – كتب د . خالد الوزني
شدَّت الانتباه جملة في كتاب قرأته منذ يومين تحت عنوان «تاريخ الاقتصادي العالمي»، خاصة في ظل ما يشهده عالم المديونية اليوم. تلك المديونية التي تكاد تلامس، من حيث الديون الرسمية، حجم الناتج المحلي العالمي، أي ما يزيد على 120 تريليون دولار، وعند إضافة مديونية الأفراد والمؤسَّسات الخاصة يصبح حجمها ضعفين ونصف حجم ذلك الناتج. الجملة التي شدَّت الانتباه تقول: إنَّ الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأمريكية – جون آدمز- اشتهر بقوله «ثمة سبيلان لغزو أمة واستعباد شعبها: سبيل السيف، وسبيل الديون». وهي مقولة تكاد تكون حقيقية، خاصة عندما يكون الحديث عن الديون التي تنشأ عن رغبة في تغطية عوارات العجز المالي الجاري للدولة، وليست الديون التي ترفع حجم الاستثمار الرأسمالي، سواءً للدول أو المؤسَّسات، أو حتى الأفراد.
المديونية الأولى هي الخافضة، التي تخفض مستوى استقلالية الدول، وحتى ترتيبها وتصنيفها الائتماني، وهي بالضرورة ما تحدَّثت عنه الجملة المنقولة عن الرئيس الأمريكي آدمز. سمات المديونية الخافضة ثلاث؛ أولها أن يتمَّ اللجوء إليها لتغطية عجز النفقات جارية، أي نفقات الأجور ومستحقات التقاعد، ومتطلبات تسيير عمل الحكومة اليومي من أداء مهام ونقل وصيانة وخدمات لوجستية وغيرها.
ثاني هذه السمات أنها مديونية تجارية، أي عبر السندات وأذونات الخزينة المحلية والأجنبية، مثل اليورودولار وغيرهما من الأدوات. أمّا ثالثة الأثافي فهي سمة المصدر، والتي تكون فيها مصادر المديونية السوق المالي، وليس المؤسَّسات الدولية أو المصادر الرسمية من الدول والصناديق السيادية. هذه السمات الثلاث تولِّد ثلاث معضلات أمام المديونية؛ الأولى بسبب استسهال الحصول عليها، وبالتالي عدم الحاجة إلى هيكلة النفقات، أو تحسين مصادر الإيرادات، ما يعني استمرار المديونية، وسداد ما يجب من أقساط أو خدمات دين عبر ديون جديدة تغطي الدين المستحق وتغطي العجز المتجدد، «تلبيس طواقي كما يقال بالعامية». والمعضلة الثانية أنها مديونية ذات كُلف عالية؛ لأنَّ مصدرها الأسواق المالية، وبالتالي فهي عبء متجدِّد ينتقل من جيل إلى جيل.
أمّا معضلة المعضلات، فهي أنها مديونية من مصادر مشتتة متنوعة ذات أهداف ربحية تجارية بحتة، أي البنوك والمؤسسات المالية الاستثمارية، ومحافظ الأفراد المضاربين والمستثمرين، وهي بذلك لايمكن مبادلتها باستثمارات، ولا يمكن شطبها، ولا يمكن جدولتها دون كلف عالية، بعضها على الجدولة والآخر على إعادة حساب العوائد. المديونية الخافضة مديونية مقلقة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وشروط التعامل معها وسدادها ينطوي على كلف سياسية كبيرة، وسدادها يتطلَّب وجود إصلاحات حقيقية، وحلولاً هيكلية حقيقية، عبر جهة مختصة بإدارة الدين، تعمل على الوقف التدريجي للاستدانة الجارية الخافضة للاستقلالية والسيادة، ومن ثمَّ توجيه دفّة الاقتصاد نحو صفقات شراكة، رافعة، تساعد على تحصيل إيرادات استثمارية تساعد على توليد دخلٍ استثماريٍّ مستدام، وعلى إغلاق ملف التسيُّب في الاستدانة، واستسهالها، ذلك الاستسهال الذي ولدته حقيقة أنَّ من يوقِّع اتفاقية القرض لن يكون في المسؤولية عن حلول أجل السداد.
كثيرٌ من دول العالم استسهل المديونية الخافضة، والجميع وقع في فخ المديونية واستسهالها، ولكن أزمة المديونية العالمية القادمة لن ترحم المدينين ولا الدائنين.