معظم الانتقادات والمزايدات التي سمعتها وقرأتها حول الأسلوب الذي اتبعه الأردن مؤخرا لإغاثة الأشقاء المنكوبين بالعدوان والتهجير والتجويع الإسرائيلي والمتمثل بالإنزالات الجوية، إما أنها غير ملمة بخلفيات الموقف الأردني حيال هذا البعد من التعامل الرسمي مع الكارثة أو أنها تتجاهل عن عمد الحقائق والمعلومات.
هنا أجد من الواجب توضيح تلك الحقائق مفترضا حسن نية الناقدين وعدم مواكبتهم للتطورات وسط كل ما يجري من أحداث جسام.
عندما أعلنت مصر عن استعدادها لاستقبال المساعدات الطبية والغذائية، كانت أول طائرة مساعدات تحط في مطار العريش أردنية، ثم توالت الطائرات فيما يشبه الجسر الجوي، وفي حينه كانت الهيئة الخيرية الهاشمية تجمع المساعدات وتنسق العمليات مع منظمات الإغاثة الدولية لضمان تدفق أكبر كمية ممكنة من المساعدات للأشقاء وبأقصى سرعة ممكنة.
لم يكن للأردن، وكما يعلم الجميع أي دور في تنظيم دخول المساعدات من معبر رفح إلى قطاع غزة، لكنه عمل بأقصى طاقة ممكنة لإبقاء هذا المعبر مفتوحا على مدار الساعة. وحين ماطلت قوات الاحتلال الإسرائيلي وتعمدت قصف المناطق المحيطة بالمعبر وفرضت شروطا لا إنسانية ولا أخلاقية كان الأردن الدولة الوحيدة التي أبدت استعدادها لتحدي هذه الشروط بصرف النظر عن الثمن، وبدون الدخول بالتفاصيل لاعتبارات كثيرة أستطيع أن أجزم بأن المسؤولين في عديد الدول العربية سمعوا موقف الأردن هذا بوضوح تام.
لجأ الأردن بعد ذلك للضغط عبر كل القنوات الدبلوماسية والإعلامية لفتح طريق بري للشاحنات من أراضيه عبر المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل مع قطاع غزة، ونسق جهوده مع برنامج الغذاء العالمي وتمكن فعلا من إدخال عدد من الشاحنات، لكن حكومة الاحتلال عادت وأغلقت هذه النافذة إمعانا منها في حصار أهلنا في غزة وتجويعهم لدفعهم إلى هجرة القطاع، وردا لئيما على موقف الأردن المتصاعد ضد العدوان الوحشي.
لم يستسلم الأردن لموقف حكومة الاحتلال، وبتوجيه مباشر من جلالة الملك عبدالله الثاني عقد اجتماع أممي في عمان ضم منظمات الإغاثة الانسانية كلها وممثلي عديد الدول لتنسيق جهود الإغاثة في غزة. شارك الملك شخصيا في الاجتماع إلى جانب جلالة الملكة رانيا العبدالله وولي العهد الأمير الحسين. وأمضى جلالته ساعات يشرح للحضور الطرق والبدائل التي يمكن اللجوء إليها لتوصيل المساعدات للأشقاء.
في الأثناء اتخذ جلالة الملك قراره بالبدء بإنزال شحنات الدعم الطبي للمستشفى الميداني الأردني في شمال غزة حيث كانت المعارك على أشدها هناك. لقد اتخذ قراره كما قلت ولم يطلب إذنا من أحد وطلب من المسؤولين المعنيين إبلاغ الجانبين الإسرائيلي والأميركي بذلك، وكان له ما أراد.
إنزال شحنات الدواء للمستشفى الأردني بنجاح هي التي دفعت بالملك للعمل على توسيع التجربة لتشمل إنزال المساعدات الغذائية والطبية جوا لأهلنا في غزة. لم يكن هذا النهج بديلا عن نقل المساعدات برا للقطاع، وهى بالتأكيد الطريقة الأنجع، لكن حين سدت الطرق في وجهنا كان لابد أن نتمسك بهذا الخيار الوحيد والمتاح.
أبدت دول عربية وغربية عديدة اهتمامها بالأمر وتوالت طلبات المشاركة في هذا الجهد. وبالفعل نظم الأردن عمليات إنزال مشتركة مع الأشقاء في قطر والإمارات ومن بعد دول غربية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
لم يسع الأردن لاستعراض إعلامي كما يدعي البعض؛ الاستعراض سبقنا إليه البعض من المسؤولين ممن لا تربطهم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عندما دخلوا لغزة بضعة دقائق لالتقاط الصورة فقط. وحين رافق الأمير الحسين المستشفى الميداني المتوجه لجنوب غزة علمنا بالخبر من حسابات الاعلام المصري قبل أن يعلن عنها الديوان الملكي.
مؤخرا شاركت الولايات المتحدة الأميركية الأردن حملة إنزال جوي للمساعدات في غزة. يمكن للمحللين أن يقولوا رأيهم في السلوك الأميركي بوصفه عجزا عن فرض إرادتها على حكومة الاحتلال لإدخال المساعدات برا بدل نقلها جوها كدولة عظمى. الأردن ليس في هذا الوارد ولم يدع يوما أنه يملك قوة أمريكا ونفوذها على إسرائيل، كل ما يعنيه في هذه المرحلة الصعبة أن يستغل كل وسيلة ممكنة لإسناد الأشقاء في غزة والتخفيف من الكارثة الإنسانية ولو بالقليل من المساعدات عوضا عن التنظير وادعاء البطولات الوهمية. أما القول إن في هذا الأسلوب من أيصال المساعدات تواطىء مع الحصار الإسرائيلي على القطاع فهو ضرب من الجنون. إن الطائرات التي تلقي المساعدات من السماء تفضح جرائم الاحتلال أمام العالم وتظهر وجهه الوحشي وهو يحاصر شعبا بأكمله، وتشكل وسيلة للضغط عليه وعلى داعميه للتوقف عن حرب الإبادة التي يرتكبها.
ولكم أن تكون قوافل الإغاثة الأردنية في مقدمة الصفوف حال ما يفتح معبر رفح بشكل كامل، أو أي معابر أخرى.