صدى الشعب – كتب د. صبري ربيحات
لا اعرف سببا واضحا لحالة النستالجيا التي تنتابني كلما تجاوزت حدود عمان وايا كان الاتجاه. ربما لان عمان تستولي على فطرتنا وتحولنا الى أفراد مملين ضجرين ننخرط في مراكز وادوار شكلية مرسومة يستسلم بعضنا لها حد الادمان. انها مدينة الجميع التي لا تقبل من لا يكون مدججا بالمال والالقاب والوثائق والمؤهلات المصدقة.
خارج عمان هناك احساس بانك شخص لك كيان حتى وان لم تحمل نقودا ولا بطاقات ائتمانية وهناك وجوه مألوفة ومفردات لا تحتاج الى تفسير ..في الارياف يوجد حياة طبيعية بعيدة عن الشكليات والتصنع. وفي البادية والارياف توجد هوية تلمس ابعادها في اللهجة ونمط البناء وشكل تنظيم المكان وسمعته وتاريخه وتضاريسه وذاكرته والنسيج العشائري الممتد على مساحته…
بالامس سعدت ومجموعة من الرفاق بتلبية دعوة احد اصدقائنا على العشاء في دارته العامرة على سفح جبل من جبال ناعور المطلة على القدس . لا اريد الحديث عن كرم الاسرة المضيفة ودفء الاستقبال وطيب الطعام فذلك لا يضيف شيئا لما هو معروف عن هذه العائلة وابناءها.
في الرحلة التي قادتنا الى منزل مضيفنا كنت بصحبة الزميل الدكتور المحامي طلال الشرفات وفي زحمة الاحاديث تهنا قليلا لنجد اننا نقف على حافة جرف قد يكلف الخطأ في الاستدارة عنه التدحرج الى أعماق واد سحيق.
عندها ولتبديد التوتر التفت الى رفيق الرحلة وقلت له ممازحا ” هكذا ومن على هذا الجرف يكون للموت مذاقا دراميا مختلفا ” فالتفت اللي صاحبي مبتسما ومضيفا ” بأن من يقضي هنا سيبقى هنا..وعلى كل الاحوال الموت هو النهاية ولا يهم كيف سيحدث طالما انه يؤدي إلى نفس النهاية.
لملمنا احاديثنا وتهيئنا لمقابلة المضيفين والضيوف فنحن على بعد ٤ دقائق من بيت مضيفنا . وما ان توقفنا بالقرب من بيت المضيف اندفع رجل خمسيني بهي الطلة وسمح الملامح من وسط حقل الاعشاب الجافة المجاور وبيده كيس وعصا.
ألقيت على الرجل التحية وقلت له انه شديد الشبه بشخص معروف وسألته اذا ما قيل له انه يشبه ذلك الشخص فاجاب بنعم…عندها تجرأت وسألت عن ما يحمل في الكيس فقال لي انها رؤوس من الغيصلان.
واستطرد بأنه جمعها لاستخدامها في وصفة علاج لالام الركب طلبت منه ان اصور الكيس وأخذت منه وصفة الاستعمال للغيصلان وتذكرت المثل القائل ” فلان لا يعرف الفرق بين الطيط من الغيصلان “
الموقف الذي مررت به بالامس يشبه مئات المواقف التي مررت بها وانا اتجول في ارجاء هذه البلاد الخيرة واتحدث مع اهلها واستمع بشغف لما يقولون . في تاريخنا الالاف من القصص والامثال والحكم والوصفات وفي كل عائلة من الخبرات المالية والطبية والتربوية والسياسية وحتى الفلسفية ما يكفي ويفيض .
المشكلة ان بعضنا لا ينظر الى هذا المجتمع وتجربته بنفس درجة التقدير والاعجاب التي يمكن ان تساعد على أحياء وتفعيل الخبرة وتوظيفها والبناء عليها لحل مشكلتنا واعادة التوازن الى نفوسنا وارواحنا الضجرة.
خلال النصف الثاني من نهار الامس كنت تلميذا في سفح جبل من جبال الاردن و تعلمت الكثير عن الاهل وتاريخهم وروحهم ومزاجهم وشيئا جديدا عن نبات الغيصلان الذي ينبت في معظم اراضي شرق المتوسط . بالامس تعلمت عن كيف تعرف اهل البلاد على طبائعها ونباتاتها ودرسوا وخبروا خصائص النباتات ووظائفها واستعمالاتها .
في قرانا البعيدة كان الناس ينعتون من لا يعرف أسرار الحياة بأنه متورط في الجهل والسذاجة بحيث انه “لا يعرف الطيط من الغيصلان ” شكرا لهذا الناعوري العجرمي ان اعارني بعضا من ما في عقله وقلبه وفتح لي كيسه ومخزون معرفته المتوارثه وأوضح لي مجددا ان للغيصلان استخدامات تتجاوز كونه نذيرا لموسم الخير والمطر الوفير.