صدى الشعب – كتبت مريم مشتاوي
لم يستسلم الفلسطينيون، رغم كم الموت، الذي يلاحقهم على مدار الساعة. لقد تمسكوا بشرارة الأمل وأظهروا تحملًا لا يصدق وصمودًا لا يلين، رغم ما يتعرضون له يومياً من معاناة لا توصف، وظلم مستفحل ووحشية صادمة ووجع لا يمكن وصفه.
كانوا في كل مرة تشتد فيها الضغوطات وتتصاعد المعاناة، يظهرون قوةً وإرادةً وصبرا لم يعرفه غير النبي «أيوب». هكذا حين حوربوا بالتعطيش وجفت حلوقهم، جمعوا قطرات المياه الملوثة قطرة قطرة في زجاجات صغيرة. قطرات قليلة جداً كانت كافية لتصبرهم على العطش. وكثيرون منهم شربوا مياه المطر.
وحين فجّر جيش الأبالسة قطاع التعليم بشكل كامل، ولم يترك مقعداً مدرسياً أو جامعياً إلا وأعدمه بحقد ووحشية، لم يترك مكتبة أو كتاباً إلا وأمعن بحرقه حتى استحال رماداً، كان هناك طفل يعلّم رفاقه الأصغر منه الكتابة والقراءة والحساب، داخل خيمة متهالكة استحالت بفعل عزيمته مدرسة. وفي خيمة أخرى في مدينة رفح كان هناك أساتذة يناقشون رسالة الماجستير. وفوق ركام معهد موسيقي كان هناك شاب يعلم الصغار العزف والغناء للوطن.
إنه شعب جبار، متمسك بأرضه حتى النفس الأخير. شعب عاش على الرغم من الدمار فوق ركام بيوته. وهذا ما وثقه عبد الله، شاب فلسطيني عن حياته المستجدة، بفعل صواريخ جيش الإجرام الإسرائيلي. لقد قرر البقاء مع زوجته فوق منزلهم المهدم في شمال قطاع غزة. هكذا وثق التشبث بالأرض والإيمان بقدسيتها.
منذ أيام قليلة رقص الأطفال فرحاً في غزة وارتفعت هتافاتهم وبدأت الاحتفالات لمجرد سماعهم بخبر موافقة حماس على مقترح وقف إطلاق النار. لكن الفرحة لم تدم طويلاً. لم تمر ساعات قليلة حتى طلب الجيش الإسرائيلي من السكان مغادرة رفح والتوجه إلى «المناطق الإنسانية الموسعة». نعم لا تضحكوا! إن جيش الإجرام يعرف مصطلح الإنسانية ويستخدمه كي يغيظ به الإنسانية نفسها! هكذا أضاءت القنابل سماء رفح لتحول ضحكات الصغار إلى بكاء وخوف ووجع وموت محتم.. إنه موت بالجملة. لقد شهقت سيدة مسنة وهي تفتح يديها نحو الأفق البعيد: يا رب كن مع النازحين. مليون بني آدم وين بدن يروحوا؟
لقد دخلت دبابات جيش الإجرام الإسرائيلي رفح، رغم احتجاجات الطلاب حول العالم والتحذيرات العالمية. كما رفعت علمها الملطخ بالدماء مكان علم فلسطين. وأبادت المزيد من الأطفال النائمين في أحضان أمهاتهم. لم تكتف بقتلهم بصاروخ واحد، بل كانت تهطل فوق الصغار وابلاً من الصواريخ. حتى تتأكد من تفتيتهم بشكل كامل. هكذا يسجل التاريخ واحدة من أبشع المجازر المرتكبة عبر الزمن. إنه جيش المتوحشين آكلي لحوم البشر!
منذ عدة أيام قال رئيس كولومبيا غوستافو بيترو: إذا ماتت فلسطين تموت الإنسانية.
ألم تمت فلسطين بعد حين ماتت غزة؟ ألم تمت مع كل صرخة طفل موجوع ونحيب كل أم مكلومة، وهي تلطم وجهها ثم تحاول التشبث بجثث أبنائها؟!
غزة ملحمة الحياة
ألم تمت بتوصية من العالم العربي، الذي اكتفى منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بالفرجة الطيبة المشوقة وبعض البيانات الفارغة والتنديد بسياسة المُحتل بخطابات تافهة؟ ألم تشبع موتاً حين تآمر العالم مع بيبي المجرم وحين أرسل العم بيدو السلاح كي يستفحل بيبي وحكومته المجرمة وجيشه النتن ويتفننون بقتل الأبرياء؟ وحين كانت تنازع غزة وتشهق شهقاتها الأخيرة، ألم تسكت أوروبا شهود الإبادة الجماعية؟! لقد شهدنا كل لحظة من موتها البطيء إلى أن دُفِنَت بدفن الآلاف من شباباها وهم أحياء يرزقون في مقابر جماعية!
غزة شبعت موتاً وشبع العالم سقوطاً وانحداراً.
ألا يكفينا مشهد الطفل الذي كان على سرير، وسئل ماذا تريد أن نحضر لك حتى تشعر بالسعادة من جديد.. فرد: لا شيء! نعم لا شيء. لقد استشهدت والدته واستشهد والده. وحين استيقظ من صدمته علم أن إخوته ماتوا جميعاً. أما هو فقد أصيب إصابة حرجة اضطر من خلالها الطبيب لبتر يديه ورجليه. فهل هناك ما يعوّضه عن أهله وصحته وطفولته ومستقبله. هل هناك من يعيد له يديه ورجليه؟!
ماذا نقول لأب يصرخ: بديش أحط عليك التراب يابا.. بديش أحط عليك التراب يا راس قلبي»!
وحين سألوه عن اسمها. ردد وهو يشهق بالبكاء: ريم محمد الشاعر. ريم محمد أحمد. وش الفايدة بدها تنحط تحت التراب.. وعاد يردد الكلمات نفسها: «بديش يابا احطك تحت التراب. هما بدهم يحطوك أنا ماليش دعوة»! وكأنه يعتذر لابنته عن موتها. وكأنه يحاول أن يعتذر لها عن وحشية العالم عن وسخ الدنيا وظلمها. عن طفولة لم تعشها وعن ملاعب لم تركض فيها وعن أحلام لن تكبر معها.
ريم أغمضت عينيها الجميلتين ورحلت إلى مكان أكثر لطفاً وأكثر رحمة. رحلت إلى هدنة أبدية. هناك حيث الأضواء لا تعني صواريخ وحرائق وقنابل فسفورية وقصف مدفعي. هناك حيث ينتظرها رفاق ملائكة كثر. وحيث تنام بهدوء وتركض كما يحلو لها وتهلل وتغني.
لقد ارتفعت غزة إلى السماء… هللويا هللويا…
كاتبة لبنانيّة