نورالدين نديم
منذ اليوم الأول لاغتصاب العصابات الصهيونية للأرض الفلسطينية وطرد أهلها منها عام 1948م، وجميع المؤسسات والأجهزة التابعة للكيان الصهيوني تستند إلى وثيقة إعلان ما سمّي بدولة إسرائيل، والتي تتضمن اعتبار “إسرائبل” دولة للشعب اليهودي على أرضه التي وعده بها الرب.
ولم تكن مؤسسة التعليم في الكيان الغاصب إلا منسجمة مع هذه الوثيقة رغم ما يواجهها من واقع يتعارض مع محتوى الوثيقة، فمواطني الكيان ليسوا من ذات الثقافة ولا يشتركون بذات التاريخ ولا يتحدّثون بذات اللغة، فهم شئنا أم أبينا تجميعاً لشتاتٍ على أساس ديني عنصري من بيئات مختلفة غير متجانسة.
حاول جهاز التربية والتعليم في دولة الاحتلال التي تشكلت في أواخر أربعينيات القرن الماضي، أن ينشئ سرديّة تاريخية تجمع شتات مواطنيه، وأن يبني من كذبة احترافيّة كبيرة، ذاكرة جمعيّة تمهد لظهور هويّة متجانسة تستند إلى تاريخ مصطنع.
لكن محاولاته لم تستطع لغاية الآن أن تحل الهوية “اليهوديّة الإسرائلية” المزيفة مكان الهويّة العربيّة الفلسطينيّة الأصيلة.
فدعوى التاريخ قد فنّدها العلماء وأصحاب الاختصاص من الباحثين، ودعوى الأحقيّة يفتح باباً على كثير من شعوب ودول العالم بمن سبق في التاريخ وملك الأرض وعاش فيها، ومن ارتحل إلى غيرها مهاجراً أو محتلّاً واستوطن وبقي فيها وتسمّت على إسمه، كأمريكا على سبيل المثال.
أمّا ما تضمنته الوثيقة من أنّ الدولة الهجينة تهدف لتطبيق قيم المساواة والحريّات وحقوق الإنسان، واتباع النهج الديمقراطي في إدارة شؤون الدولة المفترضة، قد سقط عند أول اختبار له في التعامل مع الفلسطينيّين الذين رفضوا التهجير وبقوا ثابتين في وطنهم وعلى أرضهم.
حيث أدّى انهيار مضامين هذه الوثيقة في تطبيقات المؤسسات التعليمية في “إسرائبل” إلى نشوء حركة تحرر فكرية وثقافية عربية تطالب بتضمين الرواية التاريخية الصحيحة، ومنح الحق للفلسطينين بإنشاء مؤسساتهم ومناهجهم التعليمية الخاصة بهم، بعيداّ عن الهيمنة الإثنية والدينيّة للمحتلين، وبالفعل نجحت هذه الحركة بالتمرّد على فكرة عبرنة التعليم العربي
وأفشلت فكرة فصل الإنسان العربي الفلسطيني عن إنتمائه القومي، وفصلت التعليم العربي عن التعليم العبري رغم أن كليهما يخضعان لسلطة الأنظمة والقوانين المعمول بها في دولة الاحتلال.
وفي هجمة مضادّة قادتها الأجهزة التعليمية الصهيونية واستهدفت تفكيك التلاحم الفلسطيني في المناطق المحتلة منذ عام 1948م، استطاعت أن تفرض الطابع الطائفي والإثني على التعليم، فسمحت بإنشاء مدارس بمناهج تعليمية خاصة بالبدو والشركس والدروز، لفصلهم عن باقي العرب الفلسطينيين، بحجة الحفاظ على خصوصية الثقافات والمرجعيات التاريخية والدينية.
ففي النقب المحتل استخدم الكيان المحتل حق التعليم كوسيلة ابتزاز على الأهالي، لدفعهم للهجرة القسرية والإجلاء عن مساكنهم، وذلك من خلال اعتبار قراهم غير قانونية، والاعتراف بسبع قرى فقط يسمح لهم بالنزوح اليها للحصول على حقهم بالتعليم وباقي الخدمات المعيشية، مع فرض – كما ذكرنا سابقاً – مناهج دراسية على أبنائهم تستهدف سلخهم عن محيطهم العربي الفلسطيني.
ووصل الأمر بالإتجاه الإثني الطائفي الصهيوني في جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي أن يفرض قانون “القومية” الذي يستند إلى وثيقة إنشاء الدولة اليهودية،ويلغي الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية، ويلغي أيضاً أي محتوى يشير إلى تاريخ الفلسطينين وامتدادهم العروبي في المناهج، سواء في المدارس اليهودية أو العربية، مما أثر على نسب التعليم والنجاح في الأوساط العربية الفلسطينية.
هذا غيض من فيض استهداف الهوية والتاريخ العربي في فلسطين، والخلاصة : أن كل الإنسان الفلسطيني مستهدف في ظل الاحتلال، عقله، روحه، جسده، عاطفته ومشاعره، وبناءه الفكري والمعرفي هو جزء من هذا الاستهداف، الأمر الذي يتطلب منا كعرب مسلمين ومسيحيين أن ندعم ثبات وصمود أهلنا داخل الخط الأخضر وفتح مساحة أكبر داخل مؤسساتنا التعليمية لاستقبالهم وتخصيص مناهج في التربية القومية لهم تعوّضهم عمّا فاتهم عن سبق إستهداف وتعمد من قبل الاحتلال.