كتب الدكتور محمود مساد
من الطبيعيّ أن أيّ مؤسسة هي جزء لا يتجزّأ من نظام عام، وهذه المؤسسة، أو تلك كبيرة كانت في حجم هيكلها، أم صغيرة، فهي تشكل الوحدة الأولى في النظام الذي يسعى إلى منتَج في ختام عملياته، إذ يجب أن يحدد لنفسه وجمهوره خصائص ومواصفات هذا المنتَج النهائي. ويعدّ هذا الإجراء من وجهة نظر علمية منهجا حتميّا لازما لغايات تقييمية، وهذا كامِن في الوضع الطبيعي المنطقي. لكن في حال كان الوضع حذر ممزوج بالشكّ، ومن أجل الحفاظ على المصلحة العامة للنظام، أو المؤسسة، أو الدولة، فإن غياب تحديد هذه الخصائص والمواصفات المتفق عليها يعني الكثير: منها الارتجال، والجهل، والخوف من تحمل المسؤولية. ومنها أن هناك أهدافا سرّية تتطلب تعمية الجمهور عن رؤيتها، أو – في أحسن الأحوال – من أجل توسيع هامش المناورة، ومرونة التملص من المساءلة، وتحميل الآخر أسباب التقصير.
إن التعليم في أي دولة في العالم هو أداتها الفاعلة في إعداد ناسها، وتمكينهم من المعرفة، والقيم، والمهارات التي تؤهلهم لولوج المستقبل، والتفاعل معه باستمرار بنجاح وفعالية. ومن هنا، أصبحت مسؤولية الدولة – أي دولة – أن يكون لأفراد مجتمعها خصائص ومواصفات تميزها، منها أن يكونوا مؤهلين وقادرين وراغبين في حمل طموحاتها، وتطلعاتها المشروعة لمساحات الإنجاز والتفوق. وبغير ذلك، فالضبابية، والتيه، والتعثر وفقدان بوصلة التوجيه، تغدو في هذا السياق أمورا حتمية لا يلامون عليها.
وهنا أقتبس من مقال لنور الدين نديم في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ 18-2-2024 بعنوان التعليم داخل الخط الأخضر قبل السابع من اكتوبر: “حاول جهاز التربية والتعليم في دولة الاحتلال التي تشكلت في أواخر أربعينيات القرن الماضي، أن ينشئ سرديّة تاريخية تجمع شتات مواطنيه، وأن يبني من كذبة احترافيّة كبيرة، ذاكرة جمعيّة تمهد لظهور هُويّة متجانسة تستند إلى تاريخ مصطنع”. انتهى الاقتباس.
من هنا، جاء حرصي غير الطارئ، بل القديم المتجدد، على تحديد هذه المواصفات والخصائص للخريج الأردني بعد الانتهاء من مرحلة التعليم العام، مع أنها تصلح أن تكون أيضا لمراحل التعليم جميعها بعد توصيف مؤشراتها ونِسَب الإنجاز في كل مرحلة. إنه أنموذج ” التسع ميمات ” الذي أبتكره لهذه الغاية النبيلة، الذي يتحقق بوساطة عمل مكوّنات النظام جميعها عليه، حيث يقوم كل منها بعمله وفق دوره المخصص له. وهذه الخصائص والمواصفات هي: (متعلم، مفكر، معرفي، محترم، متمكن، مثابر، متواصل، متطلع، منفتح ).
وتجتمع هذه الخصائص، والمواصفات بشكل متداخل ومتكامل في الخريج، حيث تشرح بوضوح أنه: متعلم، نهِمٌ، مُعبّأ بالفضول، ومتابعٌ كلّ جديد، يتقن مهارات التفكير المنطقية والإبداعية جميعها، ويوظفها في حياته اليومية، ويقدرعلى اشتقاق المعرفة من كمّ البيانات والمعلومات التي يصل إليها، ويتمتع بقيَم تشرّبها وسلك – بتوجيه منها – سلوكا محترما. وهو بالإضافة إلى ذلك متمكن من المهارات اللازمة لتفاعله الناجح مع محيطة على مرّ السنوات، مثابر لا يعرف الفشل، بل يستثمر دافعية الإنجاز بتفوق، وقادر على التواصل مع الآخرين بوضوح وشفافية وإيجابية، طموحه عالٍ يرتفع بسقفه بوعي مدروس، وهو إلى جانب ذلك منفتح على الأفكار والأطياف جميعها محليّا ودوليّا بما يضمن له توسيع ثقافته، ورجاحة قراراته.
وهذه “الميمات التسع” تقوم على خمس ركائز رئيسة، تضمنها الإطار العام للمناهج الأردنية المتميز الذي لم يلتزم به أحد من المؤلفين للكتب المدرسية، ومصادر التعلم المختلفة بدعم من قُوًى قادرة جهارا نهارا. وهذه الركائز هي: “بناء شخصية المتعلم المتكاملة، وتمكينه من مهارات التفكير، وتشريبه منظومة القيَم، وتبنّيه متابعة الحديث من المعرفة، وتوظيفه التكنولوجيا، وترسيخ حبّه للوطن، وتراث الأمة وعقيدتها”. وسيكون في المقالات القادمة شرحٌ وافٍ لهذا الأنموذج.
حمى الله وطننا، وثبت حبّه في ناسِه، وأدام إخلاصهم له!!