الخبيرة شاربين لصدى الشعب: حجب المحتوى هو جزء من انتهاك حرية التعبير
مقاطعة منصات التواصل الاجتماعي ليست مجدية
أجرى اللقاء : نور الدين نديم
وجد العديد من الناشطين والمثقفين وقادة الرأي في الدول التي تشهد تقييداً للحريّات وتكميماً للأفواه ، في مواقع التواصل الاجتماعي ملاذاً آمناً للتعبير عبرها عن آرائهم والبوح بما يتعرضون له من قمع وما يقع عليهم من ظلم، ولعل أشد أشكال القمع في منطقتنا هو ما تمارسه سلطات الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، ولم يكن آخرها ما تعرّض له مخيم جنين من اقتحامات متتالية وهجمات واغتيالات استخدم فيها الطيران والآليات والأسلحة الثقيلة، إلى جانب الإقصاء والإلغاء والتهجير القسري الذي يمارسه قطعان المستوطنين بغطاء وحماية من سلطات الاحتلال في القدس.
ومن الطبيعي أن يلجأ الفلسطينيون والناشطون الحقوقيون والمدافعون عن حقوق الانسان في أرجاء العالم إلى مشاركة الأخبار والقصص والصور ومقاطع الفيديو التي توثق الاعتداءات الحاصلة، والتي تحجبها سلطات الاحتلال عن العالم وتستبدلها بمقاطع مزورة ومضللة لتشويه صورة الفلسطينيين ومقاومتهم العادلة.
إلا أنّ ناشطي (السوشيال ميديا) لاحظوا أن المحتوى الخاص بالقضية الفلسطينية وما يتعلق بها، يتم حجبه من قبل إدارة مواقع التواصل الاجتماعي بحجة انتهاك المعايير، وخطاب الكراهية، ودعم الإرهاب، ووصل الأمر إلى تعليق بعض الحسابات أو إغلاقها بشكل دائم، كما فعل (تويتر) مع الكاتبة الأمريكية من أصول فلسطينية (مريم البرغوثي)، بعد نشرها مقطع فيديو يوثق الاعتداءات التي يمارسها المستوطنون بحماية شرطة الاحتلال في القدس.
ورغم اعتذار إدارة (تويتر) وتبريرها بأن ما حدث كان خطأً غير مقصود، إلا أن العديد من الحسابات الأخرى لم يعاد تفعيلها، رغم اعتراض أصحابها ، ومارست هذا الفعل، إدارة (ميتا) بأشد صرامة، حيث مارست قمعاً مباشراً بحجب علني للمحتوى الفلسطيني، دون التوثق من صحة الخبر أو الصورة أو مقطع الفيديو.
خبيرة منصات التواصل الاجتماعي والمجال الرقمي (راية شاربين)، أكدت في لقاء مع (صدى الشعب)، إنّ عدالة مظلومية القضيّة الفلسطينيّة حرّكت مشاعر الملايين من الأحرار والناشطين الحقوقيين على هذا الكوكب، فأصبحنا نرى أشخاصاً من جميع القارّات والبلدان، يعلنون تضامنهم مع الحق الفلسطيني واستنكارهم ورفضهم للاحتلال وممارساته.
وأوضحت شاربين: أن منصات التواصل الاجتماعي أضحت جزءًا من حياة الناس، تشكّل لديهم حياةً بديلة رغم أنها عالماً وهميّاً، إلا أنها عالماً موازياً يستطيع من خلاله الأشخاص ممارسة حريّاتهم والتعبير عن آرائهم التي يعجزون عن التعبير عنها على أرض الواقع بسبب القوانين المقيّدة للحريات.
الانحياز للكيان الصهيوني
واستغربت شاربين مما تمارسه إدارة (فيسبوك) من حجبٍ للمحتوى والحيلولة دون وصول الحقيقة لمستخدمي منصاتها، وانحيازها الواضح للكيان الصهيوني، مثلما حدث مع حجبها لأي منشور أو صورة أو مقطع فيديو يوثق حقيقة ما يحدث في جنين ومخيمها في الأحداث الأخيرة، مؤكدةً أنّ حجب المحتوى هو جزء من انتهاك حرية التعبير، وإغلاق الحسابات هو أحد الممارسات القمعيّة، والمراقبة الدائمة التي تستهدف محتوى بحد ذاته، ما هو إلّا انحياز واضح، ومنع لوصول الرأي والرأي الآخر.
وقد ذكر خبراء آخرون عبر مواقع إعلامية أخرى أن مثل هذه القضايا من الانحياز وحجب المعلومة لا تحدث بالصدفة، وإنما يبرمج لها وتتم باتفاقيات وضغوط تخضع لها إدارات هذه المواقع برضاها أو رغماً عنها، فناشطة حقوق الإنسان (مروة فطافطة) الكاتبة والباحثة الفلسطينية، والمحللة في مؤسسة “أكسيس ناو”، التي تعمل في مجال الحقوق الرقمية، وخلال حوار شاركت فيه عبر برنامج “ذا ستريم” على قناة الجزيرة الإنجليزية، قالت : “إن هذه ليست مشكلة جديدة، وإن ما حصل هو أنها ازدادت سوءاً مؤخراً، ولم يسبق لها أن وصلت إلى هذا المستوى، فالأمر بات فاضحاً وغير معقول، بل إنه يتعدّى الرقابة، ليصبح قمعاً رقمياً، فالحاصل هو إسكات للرواية الفلسطينية، ولمن يعملون على توثيق جرائم الحرب والاحتلال”.
ويذكر أن مؤسسة “أكسيس ناو” وثقت خلال أحداث اعتداءات التهجير القسري في حي الشيخ جرّاح في القدس، مجموعة ممارسات بخصوص الرقابة على المحتوى الفلسطيني على (فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتيك توك)، وقد قالت : “أنها تلقت مئات التقارير التي تفيد بتقييد هذه المنصات للوسوم التي تشير إلى الاحتجاجات الفلسطينية، وحجب البث المباشر، وحذف المنشورات وتعليق الحسابات.”
كما نشرت مجموعة “حملة” التابعة للمركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، تقريراً بعنوان “وسم فلسطين”، وثقت فيه عمليات الحجب وتعليق الحسابات التي جرت عام 2020 فيما يتعلق بالمحتوى حول الصراع الصهيوني الفلسطيني.
وورد لنا في “صدى الشعب” العديد من الشكاوى لمؤسسات وأفراد بخصوص تقييد قدرتهم على استخدام بعض الخيارات، مثل ممارسة التعليق على المنشورات، أو حتى وضع إعجاب، بالإضافة إلى تقييد خيار البث المباشر، والنشر والرد على تعليقات الأصدقاء.
وحول الأسباب والدوافع وراء ممارسة الجهات المالكة للمنصات الرقمية لحجب المحتوى وتقييد حرية التعبير وانتهاك الخصوصية، قالت شاربين:” عندما بدأ الانترنت بالانتشار الفعلي عام ٢٠٠٠، بدأت تستثمره منصات السوشيال ميديا في تجربة الاتصال والتواصل الذي يجتاز الحدود ويتعداها بأقل تكلفة وجهد ممكن، لكن هذه المنصات تعرضت لمخاسر كبيرة، هددت وجودها، فاعادة دراسة الجدوى من عملها حتى خرجت بفكرة استثمار منصاتها بجعلها منصات ربحية، من خلال استغلال هذا العدد الكبير من مستخدميها بالسماح للدعايات والتسويق الأمر الذي نجح بتمويلها وتطويرها، حتى أصبح الدعايات تشكل من ٨٠ إلى ٩٠% من دخل هذه المنصات.”
ويُذكر أن أغلبية الشركات التي تدير مواقع التواصل الاجتماعي، تقع مقراتها في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي لم يفهمه الخبراء وأصحاب الاختصاص، إلا أن هناك تنسيقية عليا غير معلنة تضبط ايقاعهم، وتحدد مهامهم وأهدافهم.
وقالت شاربين حول ذلك : ” لقد قامت شركة (ميتا) المالكة لموقع التواصل (فيسبوك)، بشراء معظم الشركات المالكة لمواقع التواصل الأخرى وضمها لمجموعة (ميتا).”
موضحةً أن ما يزيد عن نصف سكان العالم يستخدمون منصات التواصل التابعة لشركة ميتا الآن.
وأوضحت شاربين أنها ومن خلال عملها مع جهات عدة مختصة في مجال الحقوق الرقمية والحريات، ومن خلال التواصل مع إدارة (فيسبوك) وجدت أن (فيسبوك) اعتمدت قائمة خاصة بها للأشخاص الخطرين والمدرجين ضمن قوائم الإرهاب، ولم تقتصر على قائمة الولايات المتحدة الأمريكية أو قائمة الأمم المتحدة، وإنما زادت عليهم، وفق معايير خاصة بها، وقد رفضت إدارة (فيسبوك) الكشف عن المعايير التي اعتمدتها في تصنيف الأشخاص وحظرهم، مما يثير العديد من التساؤلات.
قائمة الارهاب
وأوضحت شاربين أن ٣٥٠ شخص يعملون في (فيسبوك) ووظيفتهم فقط تحديد الأشخاص الذين سيتم إدراجهم على قائمة الإرهاب، مؤكدةً أن من حقنا أن نعرف إذا ما كان هناك أي حكومة أو دولة او أجهزة تضغط على إدارة (فيسبوك) لإدراج أو إزالة أسماء أشخاص في هذه القائمة.
وفي سؤال وجهته “صدى الشعب” إلى الخبيرة شاربين حول بدائل المستخدمين الأخرى عن التعامل مع هذه الشركات، قالت: لا يوجد بدائل توازيها من حيث الكفاءة أو أفضل منها لإقناع مستخدمي هذه المواقع بالانسحاب منها والتحول للتعامل مع غيرها، رغم محاولات البعض عربياً واسلامياً، لكنها لم تلق نجاحاً.”
ولم تُخفِ شاربين مخاوفها حين قالت : ” حتى لو استطعنا أن نوجد بدائل فأنا أعتقد أنها ستخضع لضغط الحكومات في دولها.” ، لافتة أن منصة (تك توك) هي بديل صيني، كما أن شركة (ميتا) لها مكتب في تل أبيب وقامت بتوظيف مديرة سياسات فقط لدولة الكيان الصهيوني، لتدير عملية حجب المحتوى الفلسطيني، بينما عينت لكل منطقة الشرق الأوسط واذربيجان وشمال أفريقيا موظف أو اثنين فقط.
وفي سؤال حول حرص الكيان الصهيوني على السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية والمواقع الاعلامية العالمية، قالت شاربين : ” الكيان الصهيوني كيان محتل ويخشى على نفسه كثيراً، ومعني بتوجيه الرأي وصناعة الخبر خاصة على مواقع السوشيال ميديا، ولديه وحدة من قواته العسكرية مختصة بالهجمات والأسلحة الالكترونية تسمى (يونت ٨٢٠٠) حيث تستقبل طلاب وخرّيجي الحاسوب وتقوم بتدربيهم وإعدادهم إعداداً خاصّاً، ليقوموا بعد تخرجهم بتأسيس شركات تعمل مع حكومة الكيان مثل (مجموعة إن أس أو) التي أنتجت برنامج التجسس (بيغاسوس) وشركة (كوادريم) الأقل شهرة من (إن إس أو)، والتي أدرجتها الحكومة الأمريكية على القائمة السوداء، بسبب اتهامات بالقرصنة، والتي استطاع برنامجها التجسسي أن يخترق أجهزة (آيفون) بدون (نقر)، من خلال اختراق سري لا يحتاج أي إجراء من قبل الشخص المستهدف.”
وحول منصة تويتر وتغير سياساتها بعد استملاكها من قبل (ايلون ماسك) قالت شاربين : (تويتر) كان ميدان للنخبة، فيه مساحة نسبيّة من حرية التعبير، ولا يتم فيه حجب المحتوى كما هو على (فيسبوك)، لكن رغم ان مؤسس تويتر من كاليفورنيا أيضاً، إلا أن الأمر تغيّر إلى الأسوأ بعد أن بيعها لآيلون ماسك، وهو شخص غير ذكي، بل هو عنصري ومن محتلي جنوب أفريقيا، حيث جاء بماله فقط على مشروع ناجح وموجود أصلاً، وصار يفرض رأيه الشخصي، ويتعامل بعقلية رأسمالية، ويتعامل مع مصالحه في المحتوى المعروض، فيحجب ما يشاء ويسمح بما يشاء.”
وقد استنكر العديد من المختصين وخبراء المنصات الرقمية عملية تسييس مواقع التواصل الإجتماعي وانحيازها لطرف دون آخر، وتوجيهها للرأي العام حسب مصالح مالكيها، وتعاملهم مع المستخدمين كسوق وزبائن، تستغلهم لتحقيق أرباحها، مستخدمة معلوماتهم الشخصية لهذه الغاية، حيث أصبح من يملك المال يستطيع أن يوثق أو يغرد أو يروج ويصل للناس كيفما يشاء، لتخرج هذه المواقع عن أهدافها الإنسانية والاجتماعية التي قامت على أساسها، إلى غايات مادية لا تكترث بالحقيقة ولا العدالة وتنحاز لمن يموّل ويملك السلطة والقوّة.
مقاطعة منصات التواصل
وعن فكرة مقاطعة هذه المنصات قالت الخبيرة شاربين:” إن فكرة مقاطعة هذه المنصات ليست مجدية”، والحل بأن نستمر بالضغط على هذه الشركات.
وقالت نحن بحاجة إلى التفكير بعمل حملات بمطالب واضحة، فنحن مع أي قضية عادلة في العالم وضد الانحياز وعدم الشفافية، مؤكدة أن تجربة الأنظمة القمعية بحجب الانترنت والتعاون مع الشركات في حجب المحتوى لم تجدي نفعاً في منع حصول الناس على المعلومة.
وقد اعترفت الشركات التي تتبع لها هذه المنصات في وقت سابق بإقدامها بالفعل على حجب بعض أشكال المحتوى وتعليق وحذف عدد من الحسابات، فمموقع انستغرام اعتذر عن تعطيل العديد من الحسابات، ومنع عدد آخر من نشر محتوى متعلق بفلسطين، وذلك في 6 مايو/أيار الماضي.
وكانت فيسبوك أغلقت في عام 2016، وبشكل مفاجئ حسابات شخصية لأربعة محررين في وكالة أنباء، وثلاثة مدراء تنفيذيين من شبكة القدس الإخبارية، دون سابق إنذار، فقط لما يتم نشره وتداوله من محتوى يُعنى بالشأن الفلسطيني.
حيث كشفت مجموعة “حملة” وقتها أن الحكومة الإسرائيلية ومن خلال وحدتها السيبرانية قامت بتوجيه طلبات لفيسبوك تطالبه بحجب المحتوى الفلسطيني، وقد نجحت في ذلك.
وما أجمع عليه أصحاب الاختصاص والخبرة في المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي ، أن ما تمارسه الشركات المالكة لهذه المواقع يترك انطباعاً خاطئاً عند المستخدمين، بأن هذه الشركات منحازة سياسياً وموجهة من قبل بعض الدول والحكومات والأجهزة، على حساب الشفافية وحرية التعبير وحماية الخصوصية.