كتب. بشار الجرار
علمنا السيد المسيح درسا، مثالا مازال ماثلا للعيان في حياتنا الشخصية والمهنية. مدرسة روحية قبل أن تكون أخلاقية أو فكرية، يذكرنا فيها كبشر بذاك الذي يعيب على الآخر القشة في عينه، وقد تعامى عن الخشبة التي في عينه هو.. ولأن «أعمى» لا يقود بصيرا، فمن باب أولى ألا ينساق أولو الأبصار وراء فاقدي البصيرة
وما دام «فاقد الشيء لا يعطيه»، فإنه من غير المنطقي بناء حق على باطل أو بباطل. بلغة الصحافة، من غير المهني استقاء مصادر الأخبار او استقصاء الحقائق من فاقدي البصيرة والبصر. والعمي هنا عميان اثنان.. فمن «اخشوشبت» عيناه، فاقد للرؤية والرؤيا معا
أول من علّمني كتابة الخبر و»القصة الإخبارية»، وعرّفني تمييز الإذاعية منها عن التلفزيونية، قامة أردنية من الكرك الحبيبة، إحدى أيقونات الوطن الأصيل في ثرائه، والثري في أصالته.. أستاذ جيل بأكمله، زهير القسوس، ربنا يجزيه الخير.كان ممن أوجزوا تعريف وتعليم ما تعقد له الآن الورش والمنتديات والمؤتمرات، وجاهيا وافتراضيا! أخبرنا قبل زهاء أربعة عقود أن المعيار لمن أراد «الخدمة» في «الإعلام» ليس الصدق فقط، بل سلسلة من المعايير والضوابط المترابطة «المجدولة» جدلا -بمعنى المتضافرة- من بينها الدقة والأمانة والأخلاق والذوق وحسن التقدير.. في أبجديات المهنة، علمونا في بلاد «الصحافة الحرة والنزيهة» ما يعرف بإعلام «الرسالة» أو الصحافة «المسؤولة» المرتبطة بميثاق شرف مهني أولا و»بالمهمة» ثانيا وتلك التي يحددها مالك الوسيلة الإعلامية أو «مجالس إدارتها» العتيدة.. مجالس يفترض فيه العقل والضمير لا الحسيب والرقيب فقط
القدرة على اتخاذ القرار الصحفي أو التحريري، توفرها المعرفة وتصقلها الخبرة. الخبرة التراكمية الحقيقية، لا «تجربة» سنة أولى صحافة، مضروبة بما يبدو وكأنه سنوات خبرة حتى لو صار الرقم ثلاثة وخمسين عاما، هي عمر المجلة الكاريكاتورية الفرنسية الساخرة «شارل ابدو»
من الجليّ أنها فاقدة البوصلة المهنية تماما، عبر تكرار سقطات مهنية كارثية، أحدثها ما نشر عن «زلزال القرن» الذي خلّف في تركيا وسورية مآسي تهز الوجدان الإنساني العالمي.. رسم كاريكاتوري لحطام عمارات سكنية تركية، كتب عليه «لا حاجة لإرسال دبابات».. للوهلة الأولى، ظننته لبشاعته ووقاحته خبرا مفبركا، حتى تحققت من تغريدة للمجلة على موقعها، وراجعت بعضا من سيل جارف من التغريدات العاصفة التي ردت على الرسم الساقط مهنيا، ولا أضيف أخلاقيا، فسقوطها الشامل له تاريخ مشين، لا أريد ذكر تفاصيله التي لا ينساها القراء الكرام. اكتفي بالإشارة إلى تذكير أحد الصحفيين المنددين بالكاريكاتور الأخرق، برسم مشابه عام 2016 إثر زلزال وسط إيطاليا. التعليق المرافق للكاريكاتور حينها بلغ من السقوط الأخلاقي حد تشبيه المباني المنهارة وأشلاء ودماء الضحايا بطبقات «اللازانية».. العلة إذن في النفس المريضة، واللهاث سعيا للإثارة الرخيصة والانتشار بأي ثمن، وليست قضية حقد إثني على تركيا أو غلّ سياسي على رئيسها أو حزبها الحاكم
حتى نكون قادرين على محاسبة هذا السقوط المهني -في عاصمة الأنوار باريس- لا بد من التسامي مهنيا لا العكس.. «خطأن لا يصنعان صحيحا» كما يعرف بالثقافة الأمريكية. الرد الأكثر بلاغة، هو الضد الذي يظهر الفارق بين الحسن والقبيح، بين الخير والشر
في الصحافة كما في كل مهنة، «محراك للشر». المهمة سهلة، والحل بسيط.. نور يقهر العتمة، و»رشة» ملح تصلح ما أفسده الظلام.. هذه ليست صحافة صفراء ولا كوميديا سوداء هذه أدوات «محراك شر» نتصدى لها بالكلمة والصوت والصورة. وكم تفوقت ريشة رسام واع على حمقى اقتحموا هيكل الصحافة من زواريب عدة من بينها «الشخبطة»، لغايات لا علاقة لها بمهنة المتاعب ولا بالسلطة الرابعة!