كتبت. نيفين عبدالهادي
يعشقون الشهادة أكثر من عشق عدوّهم للحياة، ومثل هذا الشعب لا يمكن أن يُهزم، ولا يُمكن أن تلوى ذراع نضاله، أو أن تخيفهم آلات حرب تُحارب بها دول عظمى، وليس شعبا أعزل سلاحه قلبه وروحه وجسده، وهم أقوى من كلّ أسلحة هذا العالم الذي يصرّ على إغماض عينيه عن الظلم والقهر.
الشعب الفلسطيني.. الشعب الذي بات دمه وقودا للوجود الإسرائيلي، يصعب أن تجد بين لغات هذه الدنيا، وبين مفردات اللغة العربية الأكثر بلاغة بين اللغات، ما يقدّم وصفا حقيقيا ودقيقا لشعب تلاشت به الفئات العمرية، وغابت عن أيامه معالم الحياة التي تعيشها البشرية، فلم يبق في تفاصيل أيامهم سوى أطراف حياة تتشبّث بالحرية والكرامة والعدل باصرار على انتزاعهم مقدّمين الشهيد تلو الآخر وبأعمار مختلفة شبابا وأطفالا، ونساء، ومسنين ومسنات، ويرون بالشهادة حياة للوطن.
ما حدث خلال الأيام الماضية في جنين، ولا أريد أن أقدّم اسمها بأوصاف، ففي اسمها ألف حكاية وألف صمود وألف نضال، ما حدث من مجزرة إسرائيلية نفذتها قوات الاحتلال، مجزرة بشعة بحق تسعة فلسطينيين خلال عملية اقتحام موسعة لمخيم جنين، استمرت لأكثر من أربع ساعات، استشهد على اثرها عبد الله مروان الغول (18 سنة)، معتصم محمود أبو الحسن (40 سنة)، وسيم أمجد عارف الجعص (22 سنة)، نور الدين سامي غنيم (25 سنة)، محمد سامي غنيم (28 سنة)، محمد محمود صبح (30 سنة)، صائب عصام زريقي (24 سنة)، عز الدين ياسين صلاحات (22 سنة)، ماجدة عبيد (61 سنة)، وفي ذات الأثناء استشهد فلسطيني خلال مواجهات في مدينة رام الله، ليصل عدد شهداء فلسطين خلال أقل من شهر الى (23) شهيدا.
ليسوا أرقاما، إنما هم تاريخ كامل، نضال وصمود، وألم وظلم، لا يشبه هذه الظروف على مدى التاريخ، لا أرغب بنقل أسماء وأرقام بعدد الشهداء وأعمارهم، فما يحدث ليس سردا لأرقام صمّاء، إنما حقيقة تضع العالم أمام حقيقة واحدة بضرورة إحداث تحرك حقيقي لوقف ما يحدث من جرائم حرب على أرض فلسطين وشعب فلسطين، لا يُمكن لأي عقل أن يستوعب ما حدث ويحدث، ولن يجلب للمنطقة والعالم سوى قلق وتوتر، ودفن للسلام، فلا يوجد أكثر من الظلم سببا لقتل السلام وجعله بعيد المنال.
مجزرة جنين لا يمكن لأي أقلام أن تملك قدرة للكتابة عنها، ووصفها، فهو باب للضعفاء والعاجزين، ليس قصورا باللغة، إنما لعظمة وبشاعة ما حدث، وطالما كانت الكتابة مصابيح المستقبل، ففيها سنقرأ يومنا بعد سنين، وفي التوثيق والكتابة السبيل الأنجع لقراءة بشاعة جرائم إسرائيل لليوم والغد والمستقبل، لكن من يقوم بهذه المهمّة ربما تصيب قلمه سكتة قلمية لبشاعة ما بتنا نشاهد ونقرأ ونسمع، ففي جنين كُتب تاريخ حوّل مسار أحداث المنطقة والعالم، وحوّل لغتنا لجمود بلاغي لا نجد بها رغم بحورها الواسعة ما يمكن أن نعبّر عن بشاعة ما حدث، وإجرام ما اوقعته أدوات الحرب الإسرائيلية، فكم نحن أقزام أمام عظمتكم أهل جنين وشعب فلسطين، كم نحن أقزام أمام نضالكم وحبكم للشهادة فداء للوطن، هي جنين عندها بدأت حياة جديدة مختلفة معطّرة بدماء الشهداء.