صدى الشعب – هند السليم
في أول ليلة من كانون الأول، قررت زيارة البيت الأدبي لكثرة تردد الحديث عنه على مسامعي، فأنطلقت إليه برغبة وترقب وفضول بعد أن جهزت عدستي كي التقط صوراً من داخله، كنوع من توثيق الزيارة لمعلم مميز في مدينة الزرقاء، وبمحاولة لإيجاد ما أبحث عنه في البيوت الأدبية.
اذكر جيداً تلك اللحظات التي لن أنساها كلما كنت أقترب خطوة منه، أبحث عنه في حي شعبي قديم بين الأبنية، واتسائل … أيهم هو يا ترى؟ وعلى الطريق المهتريء كان على ناصية ذاك الطريق بيت صغير تملؤه المحبة والألفة؛ وجدته! منزل مضاء بألوان زاهية مفرحة، متعلقة بجدرانه الأعلام الصغيرة الملونة؛ المتأرجة ذهاباً وإياباً مع الرياح، مزين بشجرة وردية متناثرة بكل زاوية متدلية أغصانها من الداخل إلى خارج أسواره … حينها شعرت بموجة نقية ناعمة قادمة نحوي احاطتني بالدفء والجمال، وكأنها اخترقت قفصي الصدري لتمتزج مع أنفاسي وتسكن الضجيج داخلي من تساؤلات صاخبة يسمعها قلبي ويحتار عقلي بالإجابة عنها.
تلك النظرة الأولى سافرت بي بعيداً … رأيت انكسارات لا تحصى، وجع يترجم دون وعي ليصنع بعده فرح يدّون ويسمع ويشاهد، بصدق وحب مفقود بكل مكان آخر؛ إلا في البيت الأدبي الذي أصبح ذاكرة الفؤاد لكل زواره ورواده، واصبح البيت الحميم المملوء بأصوات الحب والفرح، ويعتبر واقع فاق الحلم، هذا البيت الذي كان فكرة وبدأ بحلم فأصبح واقعاً، لتتجلى ليالي السهر في الصيف والشتاء، وترسم من عناقيد الأمل فرحاً قادماً.
كنت قد حضرت في ذهني شيئاً عكس ما رأيت عندما وصلت، حسبت بأنه لا توجد كلمات تسعفني في المقام، ولا رغبات تشغلني حينها سوى التواجد والتسليم … هو ما ينبغي، وكأنني وصلت إلى مكان جديد لم أعرفه من قبل؛ حيث رأيته كبير بالرغم من صغر حجمه وازدحامه بالناس.
عندما رأيته لم أستطع أن أترك نفسي تتوه في التخيل بل حضر مشهد واحد أمام عيني، لأرى اجتماع الناس تحت سقف واحد، بمختلف الأعمار والثقافات والإبداعات بمشاعر حميمية عائلية، ومهما وصفته لن أستطيع أن أكمل الصورة الحسية لدى كل شخص يقف أمامه، ثم يتعدى البوابة ليرى مجلس اللقاءات العبق بالتاريخ المنبعث من صور خارطة فلسطين الحبيبة، والحافل بالدروع تكريماً للإبداع الأدبي المحترف، فنحن دائماً ما نزور الذكرى ونبحث فى رمادها عن بعض الجمر ليشعل الحياة فينا من جديد.
دخلت ذاك البيت باحثة عنه في كل زاوية لألقي عليه التحية وأسمع منه كلمات الترحيب!
من هو؟ … هل تقصدين صاحب البصمة؟
نعم … صاحب البصمة والكلمة والموقف والبيت … الأستاذ القدير “أحمد أبو حليوة”.
“أبو حليوة” القاص الإنسان، عمل على بناء بيته الخاص ليصبح حاضنة ثقافية لأدباء وكتاب وشعراء كانوا مبتدئين في الإبداع؛ حيث بدأ بلقاء بعض من الأشخاص، ووصل الآن إلى لقاء شهري ثابت عام مفتوح للجميع، يضم قراءات شعرية قصصية سردية، واستضافة شخصية سياسية أو إبداعية، وفقرات موسيقية غنائية، وبالإضافة إلى الفقرة المسرحية.
كما يصف “أبو حليوة” بيته الأدبي بالحالة الإنسانية؛ حيث نجد الطفل والشاب والكهل، من الأطفال من خطى خطواته الأولى داخل البيت الأدبي، وهناك من رحل بداعي سفر أو وفاة، هو بيت يجمع اللقاء والفرح بأحدى أمسياته ثم يودع من رحلوا حزناً بأمسية أخرى.
ومن الجدير بالذكر أن البيت الأدبي هو مبادرة فردية من “أبو حليوة” في منزله ومازال، ولا يخضع لأي جهة رسمية أو غير رسمية؛ حيث صنع منه مسيرة نجاح، وإذا كان الناس يبحثون عن النجاح، فإن النجاح كان يبحث عنه؛ ولا أبالغ في هذا القول!!
“أبو حليوة” أنموذج للمعلم والأديب الذي جمع بين العلم والخلق والتواضع، شخصية متعددة المواهب، حفر ذكرياته داخل أعماقه، حفظ صور في عيونه، حبس بداخله حنين عظيم، الأشواق باتت واضحة بكلماته، ولم يعد قادر على أن يخفي الحب … أسأل المولى أن يحفظه، ويمتعه بالصحة والعافية، وأن يكتب له الأجر والمثوبة على ما قدم، وأن نستمر دوماً بإحياء أمسيات دافئة إنسانية في بيته الأدبي.