صدى الشعب – فايز الشاقلدي
على مر السنين أبو محمد اليازوري وعائلته لم يتمكنوا من العودة إلى منزلهم في القدس الشرقية، فكان الخروج الأول عام 1967 يناجي طريق باب العامود وأروقة القدس القديمة، فعلى أعتاب مطعم فلافل في العاصمة عمان فتح أبو محمد دفاتر الحنين إلى مطعم أبو شكري .
قال اليازوري، غريبٌ أمر مطاعم البلدة القديمة في مدينة القدس، إنها ما زالت تتمسك بشكلٍ أو بآخر بقانون ” البقاء” فمطعم أبو شكري بمدينة القدس المحتلة يعمل منذ العام 1948 حتى الآن، تعاقبت عليه 3 أجيال، وقد عرف بهذا الاسم منذ زمن طويل، حيث كان الزبائن ينادونه “أبو شكري”.
ورغم الحصار على مدينة القدس الشرقية في سنة 1994 ، ومنع سكان الضفة الغربية من دخول المدينة إلا بتصاريح الاحتلال الإسرائيلي فإن الأسواق فرغت بالكامل من زبائنها، وقلت الحركة كثيراً في منطقة باب العامود، فبعد كل هذه التضييقات أصر أبو شكري على البقاء في سياسة الصمود والمقاومة في اللغة الفلسطينية.
ويذكر أبو محمد في لقاء مع مندوب “صدى الشعب” وعلى رائحة الفلافل، مطعم أبو شكري الذي أشتهر بعمل الحمص والفول والفلافل، إضافة إلى جميع أنواع السلطات، وله العديد من الفروع إلا أنه يواجه الآن مشكلة كثرة الضرائب التي تفرض عليه من قبل الاحتلال والسلطة الفلسطينية.
مرورًا من أبو شكري سعياً إلى رزقه حاملة بيده ساندويش الفلافل الذي يعّج بالحمص ، صعوداً إلى كراج السيارات الذي كان يعمل به أبو محمد “الميكانيكي” يستذكر ذلك الباب الحديدي المزركش وجدرانه المليئة بالنتوءات التي خَلّفها الزَّمن لكنّه لا يَزال قويًا وصلبًا ؛ فقد مَرّت عليه أعوامٍ طَويلة وشَهِدَ أَحداثٍ كَثيرة إلّا أنهُ لا يَزال المَطعم القَديم الذي يَقصده الكَثيرون لِتناول الفُطور الشعبيّ صَباحًا .
فتح أبو محمد صناديق حزنه باكياً ، يروي لنا ساعات الصَّباح عِندَ شُروق الشَّمس الذي كان يقضيها في أروقة باب العامود، ومع لفحات الهواء البَاردة المحملة برائحة الفلافل في وسط البَلدة القَديمة بدأ بالبكاء يصف سُكان البَلدة والسائحين الذين يتوافدون إلى المَطعم لتناول فُطورهم بِشهيّة فيصبح.
الحنين للصورة والنكهة والأرض كان واضحاً على تعابير وجهه فهناكَ اكتظاظ ملحوظ بين تجاعيد وجهه التي تصف شوقه إلى بلاده .
بضحكةٍ هادئة تعبر عن جوعه وهو ينتظر صَحنًا من الحُمص بالإضافة إلى صحنٍ من المسبحة وزبونٌ هناك آخر يستعجل بِطلبه بِسبب جوعه، وآخر يَطلب شَطة ومِلحًا وآخر يَطلب كأسًا من الشايّ..فهل هُناكَ أطيب من الفلافل الساخن والحُمص الطازج بِنكهة التَّوابل في كُلّ صباح.
مَطعم أبو شُكري الذي أُسس على يَدّ الحاج محمد طه المُلقب بأبو شُكري رحمه الله عام 1948م أي مع بداية نكبة الشعب الفلسطيني، صَاحب الوصفة المَشهورة لحمص “أبو شُكري” والتي انتقلت من جيل إلى جيل بِنفس الطَّعم والطَّريقة والجُودة، تَعلّم أبناؤه هذه الصَنعة وتوارثوها بَعدَ وفاته لأنها تُعد من التُّراث الفلسطينيّ، ظلَّ هذا المطعم حتى اليَوم ولَم تُغلق أبوابه بل عَلى العَكس تَمّ افتتاح فرعٌ آخر في بَلدة بيت حنينا.
يؤكد أبو محمد اليازوري، أنه كانت الأفواج تتوافد لزيارتها من بلاد الأرض قاطبةً، وقد علمت أن حزم الأمتعة إلى “بوابة السماء” حيث مسرى الأنبياء ومهد الديانات ليس من قبيل السياحة، وإنما لإرضاء فضول يتقد شوقاً لرؤية القدس التي يتحاكى العالم كله بقداسة معالمها وتاريخها بأقصاها وكنائسها وبعذابات أهلها وصمودهم جراء ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي في حقهم، وكل ما فيها حتمًا سيجعل زائرها لأول مرة يحنّ للعودة إليها مجدداً.
من رحلة الصباح… إلى عودة المساء
هي ليست وصفاً من كاتب أو صحفي هي تعابير رجلاً قد تضرع حباً وشوقاً للعودة إلى أرض الوطن، من رحلة الصباح المليئة بروحانيات المسجد الأقصى، التي نادراً ما تتكرر في حياة المرء، والذي يتجول فيها بين المعالم الإسلامية والمسيحية التي تحتضنها البلدة القديمة، مجرباً الشعور المهيب بالدخول من أبواب شامخة مثل باب العامود، وباب الأسباط، وباب الجديد، وباب الغوانمة، وباب حطّة، ومن ثم يعود إلى وطنه فرِحاً بنصيبه من قطعٍ تذكارية ينبعث منها طِيب أسواق البلدة.
ويصف المشهد بقوله: “رائعة تلك اللحظة التي تتأمل العين فيها أسوار القدس التي أعيد بنائها إبّان الفترة العثمانية، وتعود أساسًا إلى الفترة الرومانية، أسوار تكتنف بين جنباتها كلاً من الحي الإسلامي وحي النصارى والحي الأرمني وما يُسمى بالحي اليهودي”.
عودة المساء، مع صدح “الله أكبر” من صلاة العشاء ، يروي ابو محمد اليازوري القصص لصديق درب العودة قصي النجار من كفر عانة، يقول عندما حرَّر خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس من أيدي الأمبراطورية البيزنطية، واستلم مفاتيح المدينة، منح الأمن للمسيحيين وحرية ممارسة شعائرهم الدينية، ورفض حينها الصلاة داخل الكنيسة، مُصلّياً بالقرب منها، ولذا بُني مسجدٌ يحمل اسمه” “مسجد عمر بن الخطاب ” .

